جمعة الشوابكة
تحذّر قراءات معاصرة في علم الاجتماع السياسي والإدارة العامة من أن سقوط الدول لا يأتي فجأة، ولا يعلن نفسه بانهيار صريح، بل يبدأ بتآكل بنيوي صامت يطال المنظومات الأساسية التي تمنح الدولة مناعتها. هذا التآكل يبدأ عادة عند اللحظة التي تُهمل فيها الدولة شرطها الوجودي في توفير الأمن والمعيشة المستقرة، حيث يتحول الإخفاق المتراكم إلى دورة هَرَم تُفقد الدولة قدرتها التدريجية على ضبط الإيقاع الاجتماعي، رغم أنها قد تبدو قوية في مظهرها الخارجي.
وتشير التحليلات إلى أن الرخاء الاقتصادي ليس مجرد مؤشّر على الازدهار، بل هو الصمام الذي يطفئ العصبيات ويمنع تمدد الفئوية، ويضمن بقاء المجتمع في حالة عمران حي ومتوازن. لكن في اللحظة التي يتراجع فيها الرخاء وتتزايد الضغوط المعيشية أو تتصاعد التهديدات الأمنية، تستيقظ العصبيات الكامنة، فيتقدم الانقسام على حساب الوحدة، ويتراجع المركز أمام الهوامش، ويبدأ ميزان القوة الداخلي بالاختلال التدريجي لصالح قوى التفكك.
ولعلّ التاريخ يقدّم شواهد حيّة على ما يحدث حين تتآكل مناعة الدول من الداخل. فقد شهدت سوريا والعراق في العصر الحديث انهيارًا تدريجيًا للمؤسسات، سمح بتمدّد الصراعات وتفكّك مراكز القوة. والمشهد ذاته تكرّر قبل قرون مع الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، اللتين استنزفتا نفسيهما في حروب طويلة أضعفت قدرتهما على الصمود، فواجهتا الدولة الإسلامية الناشئة وهما في أوج الوهن. ورغم أنهما لم تتحدا رسميًا، إلا أن تفككهما الداخلي جعل سقوطهما أمام الجيوش الإسلامية أمرًا حتميًا، فحقق خالد بن الوليد انتصارات حاسمة على الفرس في معارك مبكرة، وأسهم في الانتصارات الكبرى على الروم، بعدما أصبحت الدولة الإسلامية أكثر تماسكًا وصلابة من إمبراطوريات أرهقها فسادها وصراعاتها الداخلية.
وفي خلفية هذا المشهد، يظهر الظلم أحد أخطر العوامل المسرّعة لتآكل العمران. فالظلم — بمختلف صوره القانونية والاقتصادية والاجتماعية — لا يخلخل العلاقة بين المواطن والدولة فقط، بل يعيد تشكيل منظومة القيم بأكملها. ومع الوقت، تتبدل المعايير؛ فتغدو الفضائل نادرة، وتتحول الرذائل إلى ممارسات مقبولة، لتفقد الثقة العامة زخمها، ويصبح فقدان العدالة العامل الأخطر الذي يدفع الدولة نحو الانحدار القيمي والسياسي معًا.
وفي لحظة موازية، يتراجع القضاء، وهو العقل المرجعي للدولة وذاكرتها القانونية. وعندما تتعرض هذه المؤسسة للاهتزاز أو تُفقد استقلاليتها، لا ينهار القانون فقط، بل ينهار الوعي الجمعي به. تدخل الدولة في فوضى قانونية صامتة، لا تعلن نفسها في الشارع، لكنها تعيش داخل المؤسسات، وتنعكس في سلوك الأفراد، لتصبح واحدة من أخطر الإشارات التي تشير إلى بدء الانحدار الحقيقي.
ويرى الخبراء أن دورة العمران التي تمر بها الدول — من التأسيس إلى الازدهار، ثم الترف فالهرم — ليست قدرًا محتومًا، لكنها قانون اجتماعي يشتغل بدقة حين تتراكم الأخطاء وتُهمل المنظومات التي تمنح الدولة قوتها. فالنهضة تُصنع بالعدل والرؤية، أما الانهيار فيبدأ حين تُهمل التفاصيل الصغيرة التي تبدو غير مهمة، لكنها تشكّل جوهر المناعة السياسية.
وتخلص هذه القراءات إلى أن وقف التآكل البنيوي يتطلب إرادة سياسية واعية وقدرة تنفيذية حاسمة، تعيد الاعتبار للعدل وتستجيب للأصوات الصامتة للتراجع قبل أن تتحول إلى عاصفة لا يمكن احتواؤها. فالمعركة الحقيقية ليست مع الأزمات الظاهرة، بل مع الانهيارات التي تبدأ في الطبقات العميقة من الدولة، تلك التي لا تُرى، لكنها تحدد مصيرها.



