شريط الأخبار
30 غارة إسرائيلية على جنوب لبنان بعد عودة المغتربين .. انخفاض ملموس بنسب إشغال الفنادق واشنطن: تفجيرات لبنان لن تغير وضعنا العسكري بالشرق الأوسط الأورام العسكري: معالجة أول حالة بتقنية الجراحة الشعاعية للدماغ كيف تم تفجير البيجر؟ حسَّان يستقبل الفايز ويؤكَّدان أهميَّة التَّعاون والتَّنسيق الوثيق بين الحكومة ومجلس الأمَّة الأردن يسير 4 قوافل إغاثية لغزة في اسبوعين شركات السجائر تبدي التزامها بأسعار السجائر وفقا لطلب مدير عام الضريبة وصول طواقم المستشفى الميداني الأردني نابلس/4 القوات المسلحة تحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف البنك المركزي الأردني يقرر تخفيض أسعار الفائدة 50 نقطة أساس ارتفاع حصيلة تفجير أجهزة اتصال تابعة لحزب الله في لبنان إلى 37 شهيدا زعماء العالم يجتمعون في نيويورك وسط تداعيات حربي غزة وأوكرانيا الخطيب لم يصدر أي تصريح رسمي يحدد موعد إعلان نتائج القبول الموحد ديرانية: الطلب على الدينار مازال قوياً لارتفاع الحوالات بورصة عمان تغلق تداولاتها على انخفاض "الضريبة" توجه كتبا رسمية لجميع شركات السجائر للتقيد بالأسعار الصناعة: العمل على إيجاد بيئة تشريعية لضبط وتنظيم عمل التجارة الإلكترونية هام من التربية لجميع طلاب المدارس الحكومية حول عطلة "الانتخابات" "الضريبة" توجه كتبا رسمية لجميع شركات السجائر للتقيد بالأسعار

صالون القاص «عدنان علي خالد» للحلاقة

صالون القاص «عدنان علي خالد» للحلاقة


القلعة نيوز-

لم يكن وجوده ملتبسا لأعثر عليه بعد بحث طويل، فهو ما يزال يطلّ بكيانه المستقل على شوارع المدينة المكتظة في الوسط التجاري، بفضائه الصغير،المحيّر، والعابق بروائح «الكلونيا» الشائعة، ومعاجين الحلاقة المعطرّة بفوحها التجميلي، رغم كونه مهملا كذاكرة فردية ووحيدة، ترتمي على رصيف التقاطع الواسع، والمطلّ على بوابة السينما الأقدم، والأكثر عراقة في مدينة الزرقاء.. سينما «الحمراء».
عثرت عليه عند عطفة الشارع، متجذرا هناك بفراغه، كمتحرش يشاكس المارّة، وينفث محتواه نحوهم من حوارات وجدل ثقافي واسع حول قضايا أدبية هامة، لم تعد معاصرة الآن، وصور ذهنية قديمة لأدباء كبار، رحلوا عنه للمرة الأخير، إلى غير رجعة، فأمسك عن ذكر أسمائهم مرغما، أو هكذا ظننت.
وكان صامتا يمدّ يديه إلى الطريق فقط، أو يرفعها مرحّباً بالناس في أناة وخشوع.
كان ككل يوم خاليا إلا من زبائن الحلاقة، وظلال البقية الباقية من أدباء المرحلة، وقد تحلّقوا جميعا حول كرسيّ الحلاق، ليناوش أغلبهم أخيلة قديمة، باهتة، رسمها الغياب لهم لتصعد شيئا فشيئاً نحو ذهني المشوش، قبل أن تتعلق بجدرانه المطلية وتستقرّ عليه، عن حسن نية بالطبع، بعد أن تسللت إليه عنوة.
عرفت منهم صاحب «الصالون» بوجهه الأبوي الطافح وقامته المربوعة، كان هو القاص «عدنان على خالد» بلا شك، وكان يجادل شابا نحيلا، بسحنة حنطية داكنة، جلبها لملامحه المتجانسة من أعماق الصحاري البعيدة، أباً عن جدّ، وكان استماعه المتحفز، رهنا بتحديق لافت تتصاعد قسوته بشكل تدريجي نحو القاص، بينما اللافت الحقيقي في هيئة الشاب، كومة الشعر المنفوشة على رأسه، «الشاليش»، وشارباه الكثيفان كبطل «مكسيكي» في الأفلام الأمريكية القديمة.. «الكاوبوي».
وكان القاص يدعوه باسم «يحيى» في حواره، فلم أعرف من هو الشاب على وجه التحديد، وأخذت أبحث عن اسمه وهيأته البدوية، بين «ألبومات» الصور الذهنية، ولم أعثر له على شيء.
في حين ردّ الشاب باندفاع على محدثه، وهو ينتقي مفردات وجودية، «مطاطة»وغير حاسمة.
تدخل أحد الشبّان الجالسين بلباقة، وقال شيئاً ما، بدا - لي وللبقية - مقنعا وحاسماً، دون أن يتخلى عن هدوئه في جلسته أو استرخائه وهو يؤرجح ساقاً فوق أخرى، ويصغي باهتمام بالغ لهما منذ البداية، رغم شروده الفطري نحو الطريق.
وكان لا يراني، لكني عرفته على الفور، رغم فداحة الفارق الكبير بين ملامح وجهه الحالية في تراوح نسبي بين مواضع التجاعيد الزاحفة وترهلها الوشيك،وبث عينيه لتلك النظرات الحزينة، الغائمة، تحت شعره الأشيب، وبين ملامحه، وهي تنعكس في مرآة «الصالون» أمامي الآن، بأثر رجعي، وقديم.
كان ذلك الشاب هو القاص والأديب «يوسف ضمرة»، وكان على صورته الباقية في ملحق الثقافة الأسبوعي لصحيفة «الرأي»، والذي طويت صفحاته للمرة الأخيرة، بيديّ هاتين، منذ خمس وثلاثين عاماً.
عبر من أمامي فجأة طيف مشاكس، لشاب طويل القامة، تخطاني بخشونة فائقة رغم أنه لم يتعثر بوجودي، وكان يرتدي بذلة رسمية وربطة عنق مقلمة تتلوى على صدره، دفع باب «الصالون»، وأخذ يدلق مرحه المبتذل على أسماع الحضور حول كرسي الحلاقة، وصلني بعضاً مما قاله بوضوح: «أشهر قليلة وينتقل هذا الجمع الأدبي الغفير إلى مبنى «نادي أسرة القلم» المبارك، في شارع السعادة.. بعد هذه التضحيات الطويلة لنيل الموافقة، ليعود صالونك بعدها يا أبا خالد خالياً، إلا من غايته الأولى.. الحلاقة».
كان هذا الطيّف دقيقا في ملامحه، والتي بدت لي وكأنها امتداد زمني بعيد لسحنة الدكتور»أسامة فوزي» الحالية، بتلك السخرية المقيدة على وجهه.
تبعه طيف آخر، لشاب سعى جاهدا لفكّ كآبته المعقودة على اتساع حاجبيه وجبينه بالتحيّة والتبسم طوعاً في وجوه الحاضرين.
طباعه العصبية وكشرته تنهشان وسامته وأناقته لتحيلهما لشيء آخر.
لكنه بدا لطيفا وطيبا رغم كل شيء.
خمنت بأن وقارة المهيب يعود إلى سماحة الشاعر»محمد لافي»، وقد كنت صائبا في ظني.
التحق الكاتب «سعادة أبو عراق» بالبقية، وجلس إلى جانب مقعده الشاغر بالصمت، وبدا لي وكأنه يقلّب أمراً ذهنيا عاجلا، يوافق افتتاحياته المعتادة واللائقة في الحوار.
ملامحه الرائقة لم تتغير كثيرا، رغم هذا الطارىء الزمني الفج، وما خلّفه عليها من أثر بالغ، وعوالق طارئة بفعل السنين.
وبقي «الصالون» على اتساعه، وسعة صدره، ولم يضق بأيّ من الحضور.
مرّ بهم شاب يتأبط كتبا وأوراقا سائبة، لمْ يدلف إلى رحابة «الصالون»، وخاطبهم بعد التحية بوجه طافح من فتحة الباب الزجاجي، عيناه تشعان نشاطاً وحماساً، في الحقيقة لم يكن طيفا، كان واقعيا أكثر من أي شيء آخر، وهو يستتر بقامته المعتدلة خلف بذلتة السفاري الصيفية، بلونها الفستقي المعتدل، ويقول: «نلتقي بعد أيام في رابطة الكتّاب بعمّان.. الرابطة لها حق عليكم أيضاً».
ثم مضى بثبات، مخلفا وراءه وقاراً وفيض ابتسامة عامرة، لينوبا عنه.
كدت أصرخ لفرط دهشتي حين عرفت من يكون..كان هذا حين استدار الشاب الأسمر، «يحيى»، وقد تخلى عن تحفزه الفطري ليغادر «الصالون»، وهو يقول: احذروا الرجل.. «محمد المشايخ» هذا ليس سكرتيرا عاديا للرابطة، هو أديب وكاتب، حسبما سمعت، يتصيد المواقف الطريفة لأعضاء الرابطة والكتّاب، بمن فيهم رئيس الرابطة، من يدري ربما هو يوثقها لزمن قادم، أو لعله يجمعها في كتاب ذات يوم.. فاحذروه».
وحين صاح به البعض، إلى أين؟ طوى جفنيه وقال: سأبحث عن «ممدوح والي»، لوحدي..!
ولم أعرف من هو «ممدوح»، لكنني عرفت من هو «يحيى»، ومن يكون.
كان قد استقرّ به المقام لاحقاً في «لندن»، ولزمن طويل قبل أن أعرف، كان هذا بعد أن طوى صفحاته الكثيرة حول «بيروت»، واجتياحها الجائر، وبضع سنين غير محسوبة في «قبرص»، كان «يحيى» هو الشّاعر «أمجد ناصر»، والذي تبدلّت ملامحه الخارجية تماما، دون جوهره «الزرقاوي» الأصيل.
لم يمض وقت، حتى رأيتهم جميعاً وهم ينسلّون واحدا تلو الآخر، يغادرون بوابة «الصالون»، وقوس المدينة، إلى غير رجعة، حتى قبل رحيل القاص «عدنان خالد»، عن هذه الدنيا.. و»السينما» الأكثر عراقة عن ذلك الشارع.
بعض النسخ المتآكلة من مجموعاته القصصية بقيت على النضد، يطالعها بعض الزبائن على كرسي الحلاقة، قصص «الذاكرة والزمن» و»هالات الحب الأزرق».. وغيرها.
رأيت في انعكاس المرايا، أمام عطفة «الصالون»، ملامح غريبة لكهل لا أعرفه، وكان يشبهني.
سمعت شاباً يحدث رفيقه هامسا ويشير نحوي، قال: هذا العجوز، كنت أقرأ له على «الفيسبوك» منذ عقود، شكله الآن قد تغير، ولكني أذكره جيدا، كلما مررت من هنا وجدته واقفا يحدث الفراغ، يقال بأن هذا الحانوت الفارغ الآن، كان صالونا للحلاقة.. لكن ما شأنه بالثقافة والأدب؟
بل ما شأن هذا الرجل العجوز بهذا المكان أصلاً؟