القلعة نيوز _ سارة ابو الريش- أ. د سلطان المعاني
لست قارئاً محايداً، ولن أكون منحازاً، لست محايداً فأنا أكتب عن شقيقي، ولست منحازاً، فأنا أنتصر لأكاديميتي، وقد اندفعت بحنين لم يخبُ يوماً للعودة إلى الكتابة في الإبداع وعنه، وها هي الفرصة تكون دوماً مواتية، كلما تحللت من مكبلات العمل الإداري، ففضاء الحرية يكمن في الحرف، وبالكلمات تنحل عقد السلاسل لتحلق في أعالي التأملات والتجليات، وتغوص في حفريات المعرفة.
شهدت بدايات صعود سامر في مدارج الإبداع حتى صار ملء العين والعقل قبل القلب. هذه مجموعة قصص قصيرة جداً كتبها صاحبها فلاحت لي، فلم اخترها ولم أنتقيها من بين ما كتب، وقد قصدت ذلك، حتى أف بوعد السطر الأول أعلاه.
تحتوي قصص سامر المعاني على عدد من الترميزات والمضامين والتجليات والاتجاهات، لن أذهب إلى الخوض فيها، تاركاً الأمر إلى فرصة قادمة أخرى إن شاء الله.
القصص التي بين أيدينا ذات أنساق وتجليات مختلفة؛ مفهوم الزمن، حتمية التغير، الحب من مناظير مختلفة، الفجوة بين المأمول والواقع، الخوف وموجبات التحدي والمقاومة.
القصة الأولى:
وتمضي الأيام:
(هرم القبطان، ينام على شاطئ اليأس، شخيره فقط من يشفع له دهس أقدام المارين حوله).
يعبر عنوان القصة عن مفهوم الزمن والتغير والتقادم، ويوحي فوق ذلك بالحزن والكآبة واليأس، من خلال شخصية واحدة هي القبطان، وهو أساساً رمزٌ للبطولة والشجاعة والقيادة، لكنه في هذه القصة يظهر في حالة من الضعف والهزيمة والانكسار. وتظهر في القصة تمكن القاص من أدواته، من خلال الشخصيات الثانوية، وهم المارين على الشاطئ، الذين يرمزون إلى الحياة العادية والروتينية، والذين ما آلت إليه حال القبطان.
أما المكان فهو شاطئ البحر، وهو مكان مفتوح وواسع، يوحي بالنعتاق والحرية والمدى الفسيح، لكنه في هذه القصة يصبح مكاناً ضيقاً ومزدحماً بالمارين، ويفقد جماله وروعته، وهي غرائبية موفقة في جعل الفسيح ضيقاً وفضاء الحرية سجناً. ولم يشأ القاص جعل الزمن محدداً، بيد أنه يشير إلى مرور زمن طويل على حياة القبطان، وتغير حاله من المجد إلى النسيان، فالزمن هنا لم ينصف، والمكان لم يسعف، والعابرين لم يعتبروا.
جاء أسلوب القصة بسيطاً ومباشراً، استخدم فيه المعاني السرد والوصف بأسلوب قصير ومختصر، دون استخدام الصور البلاغية أو التعبيرات المجازية، وأحسبه قد انتصر للفكرة على حساب البعد الفني. فالفكرة تتمحور حول مصير الإنسان في هذه الحياة، وكيف يتغير حاله بتغير الظروف، وكيف تنسى أعماله وإنجازاته بمرور الزمن، وكيف يصبح ضحية للنسيان والتجاهل. لقد استطاع سامر المعاني طرح فكرة عميقة ومؤثرة بأسلوب موجز وسلس، تثير في المتلقي مشاعر من التأمل والحزن والتعاطف مع شخصية القبطان. كما تبرز دور المارين كعامل مضاد لشخصية القبطان، وتظهر التناقض بين حالته المأساوية وحالتهم المستهترة.
ثانياً:
وصال: (قال لها ذات لقاء: أنا أكبرك في الحب بثلاثة أعوام. فأجابت: قبل ثلاثة أعوام كان قد مضى على حبي ألف حلم)
العنوان يشي بالحب حبلا موصولا ، وهو ديدن العاشقين، تناغم مشاعر، وتكامل أحلام، ومركب إبحار كما يشتهون. ولم يشأ القاص تحديد زمان أو مكان معين للقصة، بل يترك الوصال مكانا وزماناً على حالة من العمومية والرمزية، فزمن العاشقين قصير (ذات لقاء) ومكانهم سرهم الجميل (ذات لقاء)، وهذا يعطي القصة صفة التجريد والتعبير عن حالة إنسانية عامة.
تتكون حبكة القصة من حوار بسيط بين العاشقين، يبدأ بحساب الزمن بعيداً عن عادية العدّ، فهو يكبرها بالحب لا بالحساب بثلاثة أعوام، وتنتهي بجملة من ذات الوصل ترد فيها بأن حبها أقدم من حبه بألف حلم. وهذا الحوار يكشف عن مستوى عال من التفاهم والانسجام بينهما، فكلاهما يستخدم مقياس زمني غير تقليدي لقياس حبه (الأعوام والأحلام)، وكلاهما يستخدم كلمة "حب" في جملته، مؤكدا على قوة المشاعر التي تجمعهما.
تتجلى الرؤية الفنية في استخدام أسلوب الإيجاز والاقتصاد اللفظي مع قدر عالٍ من التركيز والدهشة والإثارة، وقدر على خلق جو من الرومانسية والجمال، ناقلاً للمتلقين سمو رسالة الحب والوفاء. وقد نجح المعاني في استخدام أسالبيب فنية متعددة في نصٍ قصير كلماته معدودة، فقد جاء على التشبيه: فهو يشبه حب وصال بألف حلم، معبرا عن عمقه وغناه، أحين في إبراز التضاد بين ثلاثة أعوام وألف حلم، حين عبر عن حجم الحب بينهما، وكما جاء استخدام التكرار في كلمة "حب" لتكريس مفهوم الحب، وبأنه قضية القصة الأساسية. ومن الأساليب الفنية البعد البصري والوظيفي في استخدام علامات الترقيم، عندما استخدم نقطتي تعجب في نهاية النص، معبراً عن شدة الإحساس وإبراز الدهشة.
يتجلى في هذه القصة البعد الإنساني من خلال إبراز قيمة الحب في حياة الإنسان، وصدق المشاعر، وقيمة التضحية في منحها أسبقيتها في الحب بألف حلم، وهو تسابق محمود محبب ومؤشر ولاء.
ثالثاً:
خيبة أمل :(كان يزعجها صوتها المبحوح، يشتكي ضمأ الوصال، وحين التقيا أدركت أنها كانت بحاجة فقط إلى سكر فضي).
خيبة أمل، قصة قصيرة جداً للقاص سامر المعاني، تتحدث عن امرأة يحملها الشوق إلى لقاءٍ بحبيب، وعندما التقته ، لم يكن الحب المنشود، فذاك الذي يحملها الشوق إليه شخص آخر. المغزى في القصة يكمن في مشاعر الخيبة التي تنتاب الإنسان عندما يضع آماله في الشخص الخطأ، أو عندما تختلط مشاعر الحب والرغبة.
كتبت القصة بأسلوب بسيط وسلس، استخدمت فيها بعض الصور الفنية، مثل صوت المرأة المبحوح، وسكر الفضي، لإثارة انتباه القارئ وإيصال رسالته.
القصة الرابعة:
لقاء ( لا تقدم يدها لتصافحني، تخاف أن يشار اليها بالحب، رغم انها تصافح الجميع).
تتألف القصة من جملة واحدة، مثقلة بالمعاني العميقة والمتضاربة، وقد جاءت تصور موقفاً من حياة امرأة تخشى التورط بالحب، فتحاول إخفاء مشاعرها تجاه الرجل الذي قابلته في مناسبة اجتماعية. ونلاحظ هنا أن القصة تستخدم أسلوب التضاد والتباين بين السلوك والدوافع، فالمرأة تصافح الجميع إلا الرجل الذي تحبه، وبذلك تظهر عدم اهتمامها به، ولكن في الواقع هي تخشى أن يكتشف حبها. فالقصة في التحليل النفسي تضعنا أمام حالة نفسية معقدة للمرأة، فهي تعاني من عدم الثقة بالنفس، والخوف من الرفض، والتردد بين الانفتاح والانغلاق على مشاعرها. جاء ذلك بأسلوب السرد المباشر، الذي يمنح الملتقي فرصة التخييل والتأويل.
القصة الخامسة:
" فوبيا" ( كان يخاف المرتفعات مكث عمره في الأغوار)،
العنوان الواشي بالمحتوى "فوبيا"، والذي يحمل في تجلياته الخوف المرضي أو المفرط من شيء معين، وهو مؤشر على معناة نفسية عند الشخصية الرئيسية في القصة، الخوف من الأماكن المرتفعة، فاستمرأت المكوث في الأغوار، في الأماكن المنخفضة والمغلقة. فالعنوان الموجز يحمل دلالات عميقة عن طبيعة القصة وشخصية بطلها. وأستذكر هنا نجيب محفوظ في مقولته: "الخوف لا يمنع من الموت، و لكنه يمنع من الحياة."
شخصية بطل القصة تعبر عن حالة نفسية متطرفة مصابة بفوبيا المرتفعات، وهو يحاول تجنبها بالابتعاد عنها. القصة تظهر مدى تأثير هذا الخوف على حرية الإنسان وسعادته، وكيف أن التردد والخوف والانسحاب أسباب تحول دون استمتاعه بجمال الحياة وتنوعها. يقول باول كيله: "لا شيء يطلق العظمة الكامنة بداخلنا مثل الرغبة في مساعدة الآخرين وخدمتهم.. كن شجاعاً ولا تجعل الخوف يوقعك في الأخطاء ويمنعك من تسديد الكرة."
تحمل القصة أسلوب التلميح لا التصريح والإيحاء لا المباشرة، فهي لا تفصح عن سبب خوف الشخصية من المرتفعات، بل تترك للقارئ مجالا للتخيل والتأويل.
ويظهر فيها أسلوب التضاد، فهي تضع في مقابل خوف الشخصية من المرتفعات كلمة "مكث"، أي بقي أو استقر أو استسلم، مما يدل على عدم قدرته على التغيير أو التحدي أو التجديد.
تحمل القصة، على أيِّ حال، رسالة إنسانية هامة، وهي أن الخوف عدو الإنسان، وعليه أن يتغلب على خوفه وألا يسمح له أن يسيطر على حياته. وتحمل القصة رسالة نفسية، وهي أن الخوف قد يكون مبرراً في بعض الحالات، لكن إذا زاد عن حده فإنه يصبح حالة مرضية تستوجب العلاج.
وللقصة رسالة اجتماعية، وهي أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في عزلة عن المجتمع والطبيعة، فذلك يحرمه من جمال الحياة وروحها.
القصة السادسة:
"الحب الأول":(كانت تبتسم دوماً حين تراه يختبئ في احداقها، فكلّما ارهقتها الدنيا سامرها وانطق ليلها بالذّكريات).
يدل العنوان على أن القصة تتحدث عن علاقة حب قديمة بين شخصين، ويوحي بأن هذه العلاقة قد انتهت أو تغيرت بمرور الزمن، وأن هناك حباً آخر أو أكثر في حياة الشخصيات.
تتكون القصة من جملة واحدة فقط، تصف حالة المرأة التي كانت تبتسم دوماً حين ترى حبيبها يختبئ في احداقها، وتلجأ إليه في أوقات الضيق والشدة، وتستمع إلى ذكرياته التي تضيء ليلها. هذه الجملة تعبر عن مشاعر الحنين والولاء والعشق التي تجمع بين الشخصين، وتظهر قوة الارتباط بينهما رغم مرور الزمن والظروف.
ويستخدم سامر المعاني اسلوباً بسيطاً وسلساً في سرد القصة، والقصة على قصرها تحمل صوراً شعرية جميلة مثل "يراه يختبئ في احداقها" و"انطق ليلها بالذكريات"، وهذه الصور تزيد من جمالية النص وتثير خيال القارئ. كما يستخدم الكاتب التكرار في كلمة "سامرها" التي تحمل اسم الكاتب نفسه، وهذا قد يشير إلى أن القصة مستوحاة من تجربة شخصية.
تحمل القصة رسالة إلى المتلقي عن قيمة الحب الأول والصادق، وعن كيفية المحافظة عليه رغم التغيرات التي تطرأ على الحياة، وعن أهمية التفاؤل والابتسام في مواجهة المشكلات والصعاب. كما تحمل رسالة إلى المحبين عن ضرورة التواصل والانصات لنداء الحب، وعن جمال المشاركة في ذكريات الماضي والأمل في المستقبل.
القصة السابعة:
" عربي (" قال:" كان لحمه طرياَ حين بدأ, وكانوا جميعاً يحملون الملح في جيوبهم)، يشير العنوان إلى هوية الشخصية الرئيسية في القصة، وهو "عربي"، ويمكن أن يفهم بمعنى عام أو خاص، فإما أن يكون اسماً لشخص معين، أو صفة لجماعة من الناس. كما يمكن أن يكون تعبيراً عن الانتماء أو الهوية الثقافية أو الجغرافية أو السياسية. وفي كل حال، فإن العنوان يثير التساؤل عن دور هذه الشخصية في القصة، وعلاقتها بالأحداث والشخصيات الأخرى.
تتلخص القصة في جملة واحدة، تصف مشهداً مروعاً من التعذيب والقتل، حيث يتم ذبح "عربي/ العربي" بطريقة وحشية من قبل مجموعة أشخاص يحملون الملح في جيوبهم. ويمكن أن نفسر هذا المشهد أنه انعكاس للحالة السياسية والاجتماعية التي تعاني منها المنطقة العربية، والتي تشهد صراعات وحروب وتدخلات خارجية، أو أن نراه كتجسيد للظلم والقهر والإضطهاد الذي يتعرض له الإنسان في عالم مادي ولا إنساني. وفي كلا الحالتين، فإن المضمون يحمل رسالة قوية عن مأساة الإنسان في زماننا هذا.
يستخدم القاص سامر المعاني اسلوب القصة المضغوطة أو المجزأة، وهو اسلوب يتميز بالإختصار والتلخيص والتشويق، حيث يقدم المشهد بأقل عدد ممكن من الكلمات، دون تفصيل أو تفسير أو تبرير. وبذلك، يترك المجال للقارئ لإستكمال المعاني والإستنتاجات من خلال خياله وتفاعله مع النص.
كما يستخدم علامات التنصيص لإبراز كلام "عربي"، وإظهار تضاده مع كلام المجزِّئ، حيث يستخدم هذا الأخير كلاماً مجرَّداً وبلا مشاعر، بينما يستخدم "عربي" كلاماً مُؤَثِّرَاً وغير مُفْهُوْم.
وبذلك، يبرز الكاتب التفاوت بين مستوى التفكير والإحساس بين الطرفين.
تحمل هذه القصة رسالة حمّالة أوجه إلى المتلقي، فإما أن تكون رسالة نقدية للوضع الحالي في المجتمعات العربية، أو رسالة إنسانية للتذكير بقيمة الحياة والكرامة. وهي فوق ذلك إما أن تكون رسالة تشجيعية للاستفادة من اسلوب القصة المضغوطة في التعبير عن المشاعر والأفكار بطريقة جديدة وجذابة، أو رسالة تحذيرية من استخدام هذا الاسلوب بطريقة سطحية أو مغرضة.