
بناء الإنسان بين المفاهيم الدينية والحضارية.
القلعة نيوز ـ
وكيف أن حرص البعض على الحياة هو حرمان للجميع من الحياة.
من لم يتبنَّ الإسلام منهجاً فهذا لديه أزمات متعددة، أو من لديه مشكلة في التطبيق فهو والآخرون حوله في أزمة. وبين الفهم والتطبيق قصة كاملة. وهؤلاء ينقسمون إلى طوائف: فطائفة بخلل في الفهم والإيمان والتصور، وطائفة بخلل في التطبيق.
هل يعاني المواطن العربي أو المسلم من أزمة هوية، أو اضطراب في المفاهيم؟ حقيقة لفت نظري المفكر أبو يعرب المرزوقي إلى نقطة مهمة هنا، وهو أن المسلم ليس لديه أزمة هوية ولا أزمة مفاهيم في المجمل وفي الكليات، نعم. وأضيف بأن المسلم ليس لديه أزمة وجود، ولا أزمة حياة، ولا أزمة في فهم الموت، ولا أزمة حساب من حيث الإيمان طبعاً، لا من حيث الاستعداد، وإلا فكلنا مقصرون، ولا أزمة علاقات، ولا أزمة ولاء، ولا أزمة براء، ولا أزمة طريق لمن اتضح له الطريق وتبنى الدين منهجاً وحياة طبع
هل هي حقيقة أن معظم مشاكلنا في عالمنا العربي والإسلامي، وما يحدث من اضطرابات وقلاقل ومشاكل، هو من هذه الطائفة، وينبئ عن خلل كبير في اتجاه البوصلة عند هذه الفئة؟ مع أن المفاهيم كما قلت واضحة للمعظم، ولكن نعلق في الولاءات والتفاصيل والتطبيق. والبعض لديه خلل واضح أكبر هنا، فهو من أجل مصلحة أو شهوة أو حقد أو كره، قد يتحالف مع عدوه، أو مع دولة ضد وطنه أو ضد أمته ودينه. وقد يسرق ويقتل، ويساهم في جلب مليشيات من خارج وطنه للمساهمة في احتلالها، وإخضاعها لطرف ثالث كما حدث ويحدث في السودان وليبيا وسوريا وغيرها..
وكيف أن التنافس مع السلطة وعلى السلطة لأسباب مختلفة هو من باب الفتن التي تصيب المجتمعات. وهنا لا نريد أن نصنع من الأمة خرافاً طبعاً، ولكننا لا نريدهم في المقابل ذئاباً منفردة لا تجتمع على هدف. وبين هذه وهذه، تكمن صناعة الإنسان القادر على الانخراط فيما يعود على الوطن والأمة بالخير، ويمتنع ـ حتى لو دفع حياته ثمناً ـ عن الانخراط في أي فعل لا يعود على الأمة والوطن بالخير.
السلطة وتصويب السلطة أو فرض السيطرة عليها أو السعي إليها، بين المذهب العلمي أو فكر الجماعات الإسلامية، وحتى غير الإسلامية، كان فتنة عظيمة. وهل هو يقع ضمن سنة التدافع بين البشر؟ ممكن. وضمن إبقاء البشرية في حالة حركة مستمرة؟ هذه مسألة أخرى. ولكننا لا نحكم السنن، السنن هي التي تحكمنا.
ولو تحرك بضعة آلاف من الهنود لجعلوا حياة البريطانيين في الهند جحيماً، ولخرجوا منها قبل أن يستطيعوا سرقة هذا البلد، وإعادته ليس قروناً للوراء، لكن أخرجوه من النعمة إلى الإفقار والإهانة التي لم يكن يعرفها. فالهند لم تكن فقيرة، وكانت دولة غنية، وكان الشعب الهندي متحضراً ونظيفاً ومنتجاً وعاملاً وصانعاً وزارعاً. حتى إن صناعة النسيج البريطانية الشهيرة هي في الأصل سرقة للمهنة من الهنود، وتوظيف للمكينة الصناعية المنتجة من الثورة الصناعية مكان العامل الهندي المنتج. فدخلت بريطانيا عصر النهضة الصناعية بسرقة الأفكار من الدول المستعمَرة، وحرمانها من صناعتها واحتكارها وإنتاجها.
كيف سُرقت هذه الدول مرات ومرات: ثروات وأفكار وصناعات. كيف جُعلت الهند سوقاً للمنتوجات المسروقة والمنتجة من قبل بريطانيا. فهنا أنا سرقتك وسرقة حياتك ومهنتك ومنتجك، وأجبرتك على شرائه مني. فما بدأ قرصنة انتهى احترافاً في توظيف الإنسان المسروق، والسماح له بالعمل والإنتاج حتى تستمر حياته وتستمر سرقته. فهي سرقة للبلد، وسرقة للثروة، وسرقة للقرار، وسرقة للمستقبل. هل أدركنا ما هو الوهن؟
الهند مثلاً، فبريطاني واحد كان يسيطر على حوالي خمسة آلاف هندي. وللسيطرة على الهند كاملة، والتي تعداد سكانها يصل إلى 390 مليوناً، كانت بريطانيا تحتاج إلى حوالي سبعين ألفاً، وهذا في أواخر أيام الاحتلال، في العام 1947 كانوا يسيطرون على 390 مليوناً. وقد كان الاحتلال يوظف الهنود للسيطرة على الهنود واستعبادهم. وسرقة ـ وكلمة سرقة لا تعبر عن واقع الاحتلال البريطاني ـ فهم في الحقيقة قراصنة متوحشون همج رعاع، ولكنهم كانوا يمارسون ذلك بدهاء وسياسة ومراسم ولباس حسن، ويسيطرون على هذه القطعان البشرية وفق البروتوكولات الملكية، التي وضع أساسها في الأصل قراصنة.
الوهن في الحديث حب الدنيا وكراهية الموت، نحن كثيرون ولكننا غثاء، ونزعت مهابتنا من صدور أعدائنا. ونحن كثيرون، وينال الماء من الصخرة الصماء إن تبعت النقطة النقطة، وقد يحجز حجر صغير ملايين الأمتار المكعبة من الماء إن فقدت الحركة. هل هذا هو الوهن الذي يصيب المجتمعات؟ فتجتمع بعض الأحجار الصغيرة التافهة، والتي لم تكن تشكل في عالم النسب شيئاً، فتعطل حركة الحياة لهذه المجتمعات.
وهذا الحال كان موجوداً وسيبقى موجوداً، وهو حال الأمم دائماً. فهناك طابور خامس أو سادس، سمِّه ما شئت، وهناك من يحمل مجموعة من الأفكار والعقائد، ولكنه لا يعرف كيف ينزلها على أرض الواقع، ولا يدرك الحد بين ما يجب عليه قوله أو فعله وما لا يجب عليه، وما هي واجباته تجاه مبدئه ودينه وأخلاقه ووطنه، وما هي الواجبات المطلوبة تجاه الأمة، وأين تتقاطع المسارات بينه وبين الآخر، وبين الوطن والأمة.
وهنا علق الكثيرون، وليس هو فقط. وهذه كالأمراض التي تصيب الجسد، فهي تنتظر جرحاً هنا أو ضعفاً في المناعة هناك، أو قلة في الغذاء، وتهاجم الجسد فتنال منه. هي جراثيم موجودة دائماً، ولكن لا يظهر خطرها إلا إذا أصاب الأمة الضعف والمرض والوهن.
وهنا نعود إلى الضعف في بناء الأمة العقدي والفكري والجسدي على مستوى الفرد أو الجماعة، وكيف يساعد أعداءها ويفتح لهم المجال للسيطرة عليها، أو يفسح المجال لأمراض الأفكار والأخلاق التي تصيب المجتمعات أن تصيبها. وما أكثر الأمراض التي تصيب المجتمعات والأمم والأوطان والأفراد، وهذه مباحث قائمة بذاتها. فكل مجتمع يحتوي على مجموعة من الأزمات والأمراض الجاهزة، والتي تنتظر لحظة ضعف للهجوم عليه، أو الوهن للنيل منه. ولقد أدركنا ما الوهن.
هل الكارثة إذاً تبدأ في المجتمع عندما يبدأ البحث عن الذات في المجتمع، وتلك المساحة التي تظن أنها لك وسلبها منك أشخاص آخرون؟ وهنا نعود إلى مفهوم بسيط، هو مفهوم القبيلة سابقاً، وقدرتها على حماية نفسها وأرضها وأنعامها، وهذا لا يتحقق لها إلا إذا كان هناك مجموعة من الأفراد لديهم القدرة على التضحية بالنفس والمال والجهد في سبيل حمايتها. أما إذا كانت الأنانية والفردانية والسعي للسلطة موجودة عند كل واحد من أفرادها، فعندها ينتهي أمرها قبل أن يبدأ، وتصبح لقمة سائغة للقبائل حولها.
وفي الأوطان والأمم، إذا سعت كل مجموعة أو طائفة للسلطة، عندها يصبح الانقلاب هو الوضع الطبيعي في هذا المجتمع، ويفقد اتزانه واستقراره. ورأينا كيف دخلت الدول العربية في بداية هذا القرن في سلاسل لا تنتهي من الانقلابات والسعي للسلطة. وكيف أن الثورات الإسلامية الكبرى التي بدأت في القرن الأول الإسلامي انتهت إلى مقتلة عظيمة ولم تحقق الهدف، حسب ما أشار لذلك الباحث في الشؤون السياسية محمد المختار الشنقيطي.
وهنا وقفة مع الحسين رضي الله عنه، ليس تقييماً ولا من باب الحلال والحرام، ولكن مع فعله الذي حقق مقتلة عظيمة وفتنة، ولم يستطع أن يحصل على السلطة، ولم يخرجه ذلك من المبشرين بالجنة، وهذا مبحث منفصل. ولكن هذه الفتن التي حدثت بين الصحابة كان لها نتائجها، ودفع البعض ثمناً بالغاً وحياته ثمناً لها. وهذه الفتنة قائمة على طرفين كما نعلم، ولسنا هنا في موطن الخوض فيها وتقييم الصائب من الخاطئ.
ولكن مع هذا، إن التفضيل جاء للحسن لم ينله الحسين، في صورة حديث للرسول صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" رواه البخاري. وهذا ما حدث: الإصلاح والتوفيق وجمع الكلمة. حتى لصاحب السلطة المتغلب هنا، هل هو الهدف؟
وهل هو طريق استقرار الأمة؟ وهل الجماعة هدف بحد ذاته، على ما يصيبها من أمراض وفساد وظلم؟ هذا ما أجده مبثوثاً في التاريخ والأديان وعلم الاجتماع وعلم النفس، وكيفية نهوض الحضارات والأمم وسقوطها. إذا كانت الأمة مقدمة على الجماعة، والجماعة مقدمة على الفرد، تتحقق المصلحة للجميع.
وحتى نستطيع توظيف السنن بما يعود على الأمة بالخير، لا بد من فهمها الفهم العلمي ومعرفة سبل تطبيقها، للوصول إلى الاستفادة القصوى منها. وهذا ما نجح الغرب فيه، رغم انحراف أخلاقه وأهدافه، ولكنه استطاع توظيف هذه السنن لصالحه. وبين فئة تسعى لإحقاق الحق بنظرها، أو بحثاً عن السلطة برأي آخر، وفئة أخرى تحرص أو تدافع عما حازته سواء بالخيار أو الجبر، تصبح المسألة بحاجة إلى الحكمة والمعرفة والتوظيف، والخوف من مخالفة الشرع من جهة، أو الإضرار بمصالح الأوطان والجماعات من جهة، أو الخوف من الوقوع في الفتن.
وهل المهام المستحيلة التي تدخل الأمم في فتن ومقتلة عظيمة مقبولة أو غير مقبولة؟ ومتى يكون مقبولاً الخروج على الحاكم؟ ومتى لا يكون مقبولاً الخروج على الحاكم؟ ومتى يكون هو آخر الإصلاحات الممكنة للمجتمعات كما يتخيله الكثيرون؟
وهؤلاء ـ بنظري ـ لم يجربوا حقاً أن يجدوا طريقاً آخر للتعايش والتصالح والفوز المشترك، بل طغت على أدمغتهم هذه الفكرة أو الأدبية، وظنوا أنه من الممكن الوصول إليها ما دامت الشعوب تسعى للإسلام. ولكن حقيقة ما جرى على الأرض الإسلامية يستوجب بحثاً أكثر عمقاً. فكما قلنا لم تنجح الثورات الخمس الكبرى في الوصول إلى تغيير الحكم، سواء من مجتمع المدينة أو القراء والعلماء وغيرهم.
وحدثت مقتلة ذهب فيها الآلاف من الصحابة والتابعين بسيوف إسلامية. وهنا لا أتكلم عن هذا الأمر من وجهة نظر فقهية، فلست فقيهاً، ولكن أتكلم من باب الفكرة والممكن والتاريخ والاجتماع. ويبقى حساب هذه الفئة على خالقها، فهو الأعلم بها والمطلع على سرائرها، وهل كان الفعل يخالف الشرع والمصلحة ويوقع الضرر بالآخرين؟ ولقد وقع خلاف عظيم بين العلماء والمصلحين والمفكرين هنا. وهنا تتقاطع المصالح والقوى والجماعات والمجموعات والأفراد.
وتحدث فتن تذهب بكل شيء، وتصيب الجميع بشررها ونارها. فهل ننجح جميعاً حكاماً ومحكومين في الوصول إلى توليفة تحفظ للأوطان بيضتها واستقرارها، وتحقق العدالة والمساواة بين أفرادها، وتنزع فتيل الفتن قبل أن تذهب بالجميع، وتستطيع أن توحد المسلمين على اختلاف مواقعهم، وأوطانهم على مصلحة عليا وهدف أسمى، يعيد للأمة والأوطان هيبتها في ظل هذه التجاذبات العالمية القاسية التي لا ترحم ضعيفاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا مسناً؟
إبراهيم أبو حويله.