الدكتور خلدون نصيرات
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتراجع فيه الذاكرة، يبرز مؤرخون يصنعون فرقاً حقيقياً عبر حفظ ما قد يندثر. ومن بين هؤلاء يبرز اسم تحسين أحمد التل؛ الباحث والمؤلف والمؤرخ الذي كرس جهداً استثنائياً لتوثيق تاريخ إربد والشمال الأردني، مقدّماً نموذجاً نادراً في الدقة والموضوعية والاعتماد على المصادر الموثقة.
دور تحسين في توثيق تاريخ إربد والشمال.
وُلد التل في مدينة إربد عام 1961، ونشأ في بيئة تُقدّر الكلمة وتعتز بالتراث. ورغم عمله في مجالات إدارية ومحاسبية، ظلّ شغفه بالبحث والتوثيق يقوده نحو مشاريع ثقافية شكلت لاحقاً مرجعاً أساسياً لكل من يدرس
شمال الأردن. فقد وضع جهوده في إطار علمي يعيد للتاريخ دقته ويصحح ما علق بالوعي العام من روايات شفوية غير دقيقة.
تميّز التل بقدرته على العودة إلى الوثائق العثمانية، والدفاتر الرسمية، والسجلات التاريخية، ليعيد ترتيب المعلومات ضمن سردية علمية متماسكة. ومن أبرز إنجازاته دراسته المتعمقة حول قرى الشمال عام 1871، والتي أصبحت مرجعاً رئيسياً للباحثين في تاريخ المنطقة. كما ألّف كتاب "ما يخطر في البال عن أهل الشمال”، الذي ربط فيه التاريخ بالإنسان، وقدّم سرداً اجتماعياً ثرياً يوثق الحياة اليومية ويكشف التحولات التي شهدتها المنطقة.
ولم يكتفِ التل بالتاريخ المحلي، بل درس الإمارة الزيدانية ودورها السياسي، مقدماً سرداً مبسطاً وواضحاً لحقبة معقدة لطالما بقيت حبيسة الكتب المتخصصة. كما تناول تاريخ آل التل بموضوعية تامة، بعيداً عن التجميل أو الانحياز، مقدماً نموذجاً لكيف يجب أن يُكتب التاريخ العائلي في الأردن: توثيق دقيق، وحياد علمي، واحترام للحقيقة.
وإلى جانب الكتابة التاريخية، قدم التل مقالات وتحليلات في السياسة والاقتصاد والمجتمع، تميزت باستقلالية الرأي وجرأة الطرح، وظلّ قلمه منحازاً للمصلحة العامة ومبتعداً عن المجاملة.
ورغم هذا الجهد الكبير، وما لا يزال في أدراجه من مخطوطات لم تُطبع بعد، يبقى التكريم الرسمي لهذا الباحث أقل من حجم ما قدمه لتاريخ الوطن. ومن هنا تدعو آفاق نيوز الجهات المعنية — من جامعات ومؤسسات ثقافية وبلديات وروابط تاريخية — إلى الالتفات لهذا العطاء، وتكريم تحسين التل تقديراً لخدمة ثقافية ووطنية تستحق الوقوف عندها.
إن تكريم تحسين التل ليس مجرد احتفاء بشخص، بل هو احترام لذاكرة مدينة، وتثمين لجهد علمي رصين، ورسالة بأن الأردن يقدّر من يوثق تاريخه بصدق وإخلاص.
تحسين التل ليس مجرد مؤرخ؛ إنه ذاكرة إربد وروح الشمال وقلم كتب ليدوم… وسيبقى.




