عميد زيد الرواشدة
الفقر في مجتمعنا ليس ظرفاً اقتصادياً عابراً، ولا نتيجة لحظٍ عاثر أو مجهود ضائع. إنه نظام متكامل، ينسج خيوطه منذ الولادة، ويعيد إنتاج نفسه عبر الأجيال، تحت ستار العدالة الاجتماعية والفرص المتساوية، بطريقة تجعل الفقراء يصدقون أن كل شيء طبيعي وعادل، بينما يبقى النظام محميّاً ويكرّس الامتياز للفئات العليا.
منذ اللحظة الأولى، يولد الطفل في بيئة تحدد مستقبله قبل أن يعرف العالم. حيّ فقير يعني مدارس مهترئة، موارد محدودة، تعليم ناقص، ومعلمين مرهقين لا يملكون أدوات التحفيز الكافية. في المقابل، الطفل في حي غني ينشأ في بيئة محفزة، مع أدوات تعليمية متطورة ومعلمين قادرين على تحويل الطموح إلى إنجاز.
هذه الفجوة المبكرة ليست صدفة؛ بل هي بذور الفقر المتوارث. يتعلم الطفل الفقير منذ طفولته أن الفرص محجوزة لغيره، وأن الطموح محفوف بالعقبات، بينما الطفل الآخر يعتاد النجاح والمكافأة.
وفي المدارس، تتجلى إعادة إنتاج الفقر بشكل أوضح. المناهج والموارد غير متساوية، والفرص للتطوير محدودة، وبرامج الدعم والابتكار غالباً ما تُقدَّم انتقائيّاً، بحيث يبقى الفقراء في دائرة ضيقة من المعرفة والخبرة، بينما تُتاح للآخرين كل الأدوات لتفجير طاقتهم. يتحول التعليم بذلك من وسيلة للارتقاء إلى آلية لتثبيت الوضع القائم، ويصبح الحرمان التعليمي عبئاً ثقافيّاً ونفسيّاً يعيق المبادرة والإبداع.
أما سوق العمل، فالفرص الوظيفية الأفضل والمواقع القيادية غالباً ما تُحجز لمن يمتلكون النفوذ والامتيازات العائلية، بينما يُترك الفقراء للتنافس على وظائف هزيلة، أجورها ضعيفة واستقرارها غير مضمون. وهكذا يُعاد إنتاج الفقر بشكل متكامل: مادي، نفسي، واجتماعي، لتصبح الخوف والريبة والتردد سلوكيات مكتسبة، ويتحوّل الفقر من مجرد حالة إلى ثقافة متوارثة تحافظ على هرم الامتياز.
والأخطر أن هذه العملية غالباً ما تُقنع المجتمع بأنها طبيعية. القوانين والتشريعات المصممة لدعم الفقراء تتحوّل أحياناً إلى أدوات لإدامة الفقر، لأنها تُطبَّق بشكل انتقائي أو تُفسَّر وفق مصالح الطبقات العليا، فيتعلم الفقراء قبول الواقع والاعتقاد بأن الوضع عادل، بينما يُبنى النظام بأكمله لصالح الأغنياء ويكرّس الفقر كحالة ثابتة.
الفقر الحقيقي يتجاوز نقص الموارد؛ إنه ظلم متوارث، ثقافة قاتلة، وعائق أمام تطوير المجتمع. وكل خطوة نحو كسره تتطلب شجاعة: شجاعة للشك فيما يبدو طبيعيّاً، شجاعة لإعادة توزيع الفرص بعدالة، شجاعة لبناء نظام يكافئ الكفاءة لا المحسوبية، ويمنح كل فرد حقه في التعليم والعمل والنجاح.
وهنا يأتي دور الفرد الواعي والمؤسسات المسؤولة لكسر هذه الدائرة. توفير التعليم الجيد للجميع، خلق فرص عمل عادلة، وتقييم الأداء على أساس الكفاءة لا النفوذ، كلها أدوات لكسر حلقة إعادة إنتاج الفقر. كل مبادرة ناجحة، كل مشروع ابتكاري، وكل نجاح يُحتفى به بعدالة، يصبح حجر أساس لكسر النظام الصامت الذي يعيد إنتاج الحرمان.
في النهاية، إعادة إنتاج الفقر ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل اختبار للضمير الاجتماعي، للعدالة، وقدرة المجتمع على منح الفرص الحقيقية لكل فرد. كل خطوة نحو كشف هذه الحقيقة، نحو الإصلاح والتغيير، هي خطوة لإنقاذ المجتمع ككل، لا الفرد فقط.
فالمجتمع الذي يسمح للفقر أن يُعاد إنتاجه سيبقى مقسوماً، طموح أفراده محدود، والمواهب الحقيقية محاصرة خلف جدران الفرص المحدودة. أما من يكسر هذه الدائرة، فهو يخلق مجتمعاً حيّاً، متطوراً، ومليئاً بالإبداع والفرص الحقيقية، بعيداً عن المحسوبيات والامتيازات الموروثة.



