مع تطور وتقدم المجتمعات تتطور الحاجات والرغبات لدى افراد هذه المجتمعات وتزداد تعقيداً، الأمر الذي يتطلب تطورا في اليات إشباع هذه الرغبات والحاجات بطرق إبداعية ومن خلال اعلى الإمكانيات التقنية المتاحة، وباستخدام أحدث وسائل البحث العلمي والتطوير. ولعل النظام التعليم هو المسؤول بشكل مباشر عن إفراز الباحثين والمخترعين الذين يُتوقع منهم النهوض بمهمة تطوير عمليات البحث باتجاه خدمة البشرية والوصول الى الحلول التي تلبي احتياجات المجتمع في الوقت الراهن وتتوقع التغير في أنماط هذه الاحتياجات في المستقبل والاستعداد لها مع ضرورة مراعاة أحقية الأجيال المستقبلية في الاستفادة من الموارد المتاحة ودون الإجحاف والمبالغة في استخدام الموارد مما يؤدي الى فنائها وتبددها وحرمان الأجيال القادمة من الحق في العيش في بيئة نظيفة قابلة للاستمرار.
إن الحاجة المستمرة الى وجود كفاءات علمية وبحثية تنهض بالدور المشار اليه سابقاً كان هو مبرر استثمار المجتمعات في إنشاء المؤسسات التعليمية والأكاديمية التي تُعلّم وتدرب وتخرج هذه الكفاءات وتمنحهم وثائق تثبت انهم حصلوا على قدر مقبول من التعليم والتدريب والتأهيل الذي يعطيهم الحق في ممارسة مهنة محددة ضمن نطاق عمل محدد مثل أن يمارس خريج الطب مهنة الطبابة وكذلك الأمر يمارس خريج الهندسة مهنة التصميم وهكذا الى اخر قائمة المهن التي إنما وجدت كاستجابة لحاجة او حاجات محددة ادرك افراد المجتمع انهم يحتاجونها لاستمرار حياتهم بيسر وسهولة.
بالغت المجتمعات في تأسيس وإنشاء المؤسسات التعليمة والأكاديمية الى نحو أدى الى ترهلها وخروجها عن دائرة الهدف الذي أنشأت من أجله و لعله مما زاد الطين بلةً دخول الرأسمالية على خط تسليع الخدمة التعليمية (أي تحويلها الى سلعة تخضع لقواعد العرض والطلب) وتحولت كثير من المؤسسات الأكاديمية الى ماكنات لطبع وبيع الشهادات دون ادني مسؤولية أخلاقية عن نوع الخريج وكفأته وقدرته على خدمة الإنسانية بعد التخرج ودون الالتفات الى أهمية صقل شخصية المتعلم وعرس الإيجابية في سلوكه على النحو الذي يساعده على الانخراط بإيجابية في دورة الإنتاج، وهو ما يقودنا الى الحديث عن احد اخطر المشاكل التي تواجه مجتمعنا الأردني كما هو الحال في غيرها من المجتمعات الأخرى (المتقدم منها والنامي على حدٍ سواء)، وهي مشكلة التضخم الاكاديمي، وهوما يمكن تعريفه على انه ازدياد أعداد حملة الشهادات الأكاديمية والمؤهلات المهنية على نحو يجعل المعروض من حملة هذه الشهادات والمؤهلات اكثر بكثير مما تتيحه سوق العمل من فرص لحملة هذه المؤهلات الأمر الذي يؤدي بالنهاية الى قبول او تهافت أشخاص بمؤهلات علمية عليا على أعمال لا تحتاج هذه المؤهلات أو وانها لا تحتاج الى تعليم اكاديمي على الإطلاق. ولعله من المنصف الإشارة الى ان اول من ناقش فكرة التضخم الاكاديمي او التعليمي هو الخبير التربوي البريطاني كين روبنسن (توفي عام 2020) وقد قدم هذه الفكرة في سياق دعوته الى مراجعة النظام التعليمي في المملكة المتحدة وقد قام بتعريف التضخم الاكاديمي على أن أنه تراجع قدرة الشهادات والمهارات العلمية والأكاديمية على إفادة صاحبها، بمعنى أن من كان يحمل شهادة الثانوية العامة في العام 1970 مثلا كان قادرا على تحصيل وظيفة محترمة تدر عليه دخلا جيداً في القطاع الخاص وقد تؤهله الى شغر مناصب عليا في القطاع العام؛ بينما في العام 1990 أصبحت نفس الوظيفة بنفس الدخل تقريبا تحتاج إلى الشهادة الجامعية الأولى، أو ما يعرف بالبكالوريوس، ثم أصبح من الضروري مع بداية الألفية الثانية الحصول على الماجستير او الدرجة الجامعية الثانية ربما لتضمن المنافسة على وظيفة كان يشغلها شخص يحمل الثانوية العامة فقط قبل ثلاث عقود من الزمن.
ان تسليع التعليم نتج عنه انفصال مخرجات التعليم عن حاجات المجتمع وتدهور إنتاجية الفرد وما يرافق ذلك من هدر للموارد وتشوه في البناء الاجتماعي وهدر لكرامة حاملي الشهادات العلمية عن جدارة واستحقاق فأصبح من يملك المال قادرا على شراء الشهادة بهدف شراء الوجاهة الزائفة واحترام الناس وهو امر في غاية الخطورة اذا لم يتم معالجته بوعي مجتمعي ورعاية وعناية خاصة من راسمي السياسات التعليمية بحيث تعود العملية التعليمة الى جادة الصواب والى سكتها الصحيحة وفضح زيف بائعي الوهم وسماسرة الشهادات الفارغة والمفتقرة الى المصداقية. علاوة على ذلك يجب توفير الدعم المادي والمعنوي الكافيين للجامعات الحكومية وتخصيص ما يكفي من الموارد لتمكينها من تكريس كل طاقاتها لتنمية الإبداع واكتشاف المواهب وإعادة توجيه أصحابها نحو خدمة الإنسانية على نحو كفوء وفعال ومستدام. ختاماً، أرجو ألا يُفهم من هذا المقال انه هجوم على الجامعات الخاصة أو مؤسسات التعليم الموازية، إلا انه يهدف الى إعادة التذكير بأن نهضة الأمم إنما تبدأ بتجويد وحوكمة قطاع التعليم وتحصينه ضد التسليع وتحويل الجامعات الى ماكنات لتفريخ حاملي الشهادات بعيدا عن الدور الحقيقي لها والمتمثل بكونها عقل المجتمع وضميره ومعقد رجاءه في بناء مستقبلٍ مبشرٍ بالخير قادرٍ على مواجهة التحديات وخلق الفرص والبناء الحضاري المستدام د. محمد قاسم الحجايا اكاديمي وخبير اقتصادي