"أن فرصة الإمساك بالمستقبل ما زالت بين أصابعنا ،أفاق ثقافة الطفل و أغنيته جزء منها تعد بالكثير, إذا عرفنا كيف نبدع بإحساس الطفل وإذا طرقنا بشدة جدران المؤسسات الثقافية المعنية , وأخطرها شأناً مؤسسة الإذاعة والتلفاز"
==========================
==========================
لحظات من الرهبة
أحسستها و أنا أقف أول مرة , أمام باقة من الأطفال ، كان هذا في السنة الأولى التي
أتصل فيها بتلاميذ الصف الأول الابتدائي ، حشدت كل ما لقنت من نظريات تربية وعلم
نفس
أحسست بخواء ثقيل ،
حاجز يعمق الهوة بيني وبين هؤلاء الأطفال الرائعين ، لا أدري كيف استيقظ ذلك الشيء
الغائب منذ ولادتي بعد طول سبات ، طفلاً بريئاً مشاكساً ودوداً، فر من صدري إلى
تلك المقاعد الخشبية حيث تجلس تلك الباقة من الأزهار, عندها فقط تلاشت تلك الرهبة
، وتفتقت في ناظري عوالم فسيحة من البهجة , البراءة , الدهشة , الجمال .
يا لعالم الطفولة الفاتن , ظننت لفترة أنني
اكتشفته ، عرفته كظاهر يدي، غير أني كنت أدرك في كل يوم , عاماً اثر عام أنني
مازلت أجهد في اكتشافه من جديد , فضاء هائل من الاحتمالات , أنه عالم الطفولة الذي لا أظن أن احد يمكنه زعم إمساكه ، قد يقيم
جسوراً من التواصل ، التي لا يتاح لأحد أن يقيمها إلا إذا فر من قلبه ذلك الطفل
القديم , الغائب الذي فر من قلبي ذات يوم ،
بغير هذا لن تتاح لأي
مهتم أدنى مقاربة من عالم الطفولة ذاك، وبغير هذا لن يقيض لمبدع أن يقدم ثقافة
تخاطبه ، لأنه ببساطة سيفرض عالمه هو " عالم الكبار وثقافة الكبار " وهذا تماماً ما يقع فيه كثير من يتنطعون لثقافة الطفل .
بعضهم يخضع عالم
الطفولة لمقايسه العقلانية المسطحة ، والتي لا تتجاوز الاعتقاد بقصور مدركات
الأطفال وضعف ملكاتهم ، فيقدم لهم ثقافة مسطحة مبتسرة ، لن افجأ إذا واجهها الأطفال بكثير من الاستياء والاستخفاف .
اقول أن إي مبدع لن
تتاح له مقاربة عالم الطفولة مهما عظمت أسلحته الثقافية والأكاديمية، إذا لم
يسبقها حضوره الطفولي , إذا لم يدع الأطفال يكتبون معه ما يكتب لهم , يلحنون معه
ما يلحن لهم , يغنون معه ما يغني لهم ، يواجهون معه المواقف ويقترحون الحلول ،
يضعون معه قاموسهم اللغوي والدلالي الحي، قيمهم الإنسانية العميقة الواعدة ، يعالج
معهم في المرة الواحدة فكرة واحدة , أو عدداً محدوداً من الرؤى والأفكار , وليس
حشداً من القيم التربوية , الخلقية , المعرفية.
الطفل يرى في قطته
وطناً , لماذا نكرهه في مرحلة عمرية ما على غير هذه الرؤيا ، لماذا لا نتميز ذلك
الوطن الذي يراه في قطته تلك , وفق هذه الرؤيا المختزلة والمختزنة , يمكن أن نخلق
واقعاً ثقافياً جديراً بعالم الطفولة، عالم المستقبل الواعد .
وحيث أن مادتنا في
هذا الكتاب تعنى فيما تعنى بأغنية الطفل ، فأنني استذكر بكثير من الغبطة والفرح و
بما يعمق إيماني بما قلت , تلك التجربة الاستعراضية الغنائية المسرحية ، التي
شاركني فيها الفنان " وضاح زقطان " رأيته كيف يبني مع الأطفال موسيقاه ,
أداءه , نبراته , إحساسه, كانت موسیقاهم , وكان أداؤهم , وكان إحساسهم ، تماماً
كما يحبون ، لذلك كانوا يغنون بطفولة سعيدة , ما كان " وضاح " يغني معهم
, فقط يغني معهم , ليتكم كنتم معنا لتروا كم كبر أولئك الأطفال في تلك الأيام القليلة
.
وقريباً من هذا فعل الفنان " يحيى
الترك" ، وطفلته المرهفة " ربى ". إن أغنية الطفل لا يمكن أن ترتقي
إلى ما ينبغي لها , إلا إذا رددنا مع القائلين , دعوا الأطفال يغنون ... بل غنوا
معهم أيها الكبار .
لقد أنارت ابنتي الصغيرة طرقاتي وهي تقول
: و أحب الأغنية ذات الكلمات السهلة ، الأفكار المحدودة , الموسيقى المرحة، يؤديها
أطفال بعفوية وبساطة . أن ما يشاهد وما يسمع عبر التلفاز والإذاعة في أكثره مسخ
الأغنية الطفل ، بل مسخ لطفولته , وتشويه خطير لذائقته وقيمه الروحية والنفسية ،
وإزهاق لطفولته الغضة ,
وخير مثال على ذلك , أغاني الكبار التي يدفع
الأطفال إلى إعادة إنتاجها وفق نظام playback" " و المدهش أنها تقدم ضمن برامج الأطفال ، فقط المجرد أن أطفالا تم
تصويرهم في هيئة من يؤدون ، علاوة على الإصرار على تقديم أغان مضى على تصويرها
عشرات السنين، فقدت معناها وتواصلها حتى مع الأطفال أنفسهم ، مع أن الأرشيف يزخر
بكل جديد مبدع , ثم لم هذا الإصرار الفج من كتابنا وفنانينا على تقديم القضايا
الكبرى في كل حين وكيفما اتفق؟ إن للأطفال عالم آخر يجدر الحديث عنه , وكشف روائعه
...
هذا تماماً ما قالت طفلتي الصغيرة دون كلام , وهي تختار أنشودة " قمر الأطفال
" من مجموعة قصائدي التي نشرتها بين يديها ... عند سؤالها عن مبرر اختيار هذه
الأنشودة بالذات , قالت - قرأت فيه إحساسي، فانا أرى في القمر وجه طفل ينظر الي
كلما نظرت إليه .
أن فرصة الإمساك بالمستقبل ما زالت بين أصابعنا
، أفاق ثقافة الطفل و أغنيته جزء منها تعد بالكثير, إذا عرفنا كيف نبدع بإحساس
الطفل وإذا طرقنا بشدة جدران المؤسسات الثقافية المعنية , وأخطرها شأناً مؤسسة
الإذاعة والتلفاز ، وإذا خلصنا من الذهنية الماضوية ، وخلعنا قيود النص الجاهز إلى
فضاء الإبداع القادم ، إذا خرجنا من إطار المكان والزمان , إلى أفق الكون الإنساني
الأرحب , عندها فقط نبدأ خطواتنا إلى المستقبل إلى وطن أكثر براء و رسوخا و حرية .