القلعة نيوز:
موائد المأمون
ميسون عبد الدين
29/6/2023
الخميس
يعتبر الخليفة العباسي السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد من أعظم الشخصيات الحاكمة في تاريخ الدولة العباسية ، إذ تميز عهده بالنهضة العلمية والأدبية ، وكان له قدم السبق في ركب العلم والعلماء ، ومصاحبة الفقهاء والأولياء ، واهتمامه بكل أنواع العلوم من الفلك والهندسة والفلسفة ، وعنايته بالترجمة والتأليف ، ومعرفته بأيام العرب والشعر والنثر ، وقد جاء في كتاب قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر أن المأمون كان ذا رأي وعقل ودهاء ، وأنه من أذكياء العالم ، ووصفه السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى أنه كان ذا حزم وعزم ، وحلم وعلم ودهاء ، وهيبة وذكاء وفطنة وفصاحة ودين .
ولكن يبقى الجانب الأكثر إثارة في شخصية أمير المؤمنين عبد الله المأمون هو إتقانه ومتابعته لفنون الطبخ ، وعنايته للمائدة الغذائية وتنظيمها ، والتأكيد على آدابها ونظافتها ، أما عن التنظيم فقد قُسم المجلس الى قاعات يفصل بينها ستائر ، يجلس في القاعة الأولى الخليفة وكبار القوم على حسب مكانتهم ، ثم الأدنى فالأدنى من عامة الشعب كالتجار والشعراء والحرفيين والصنّاع حتى الفقراء منهم ، تُزيين كل قاعة بالزهور، وترش بماء الورد ، وتطيّب بأنواع البخور والعطور ، مع وجود الكثير من الغلمان والجواري للعمل على خدمة الضيوف ، يرافق كل ما سبق فرقة الطرب والغناء المكونة من عشرين جارية يضربن على العود والدفوف ، إضافة الى الراقصات والجهابذة من المغنين والملحنين ، والظرفاء أصحاب النكات ، والشعراء المحترفين .
ولم يقل اهتمام المأمون بتنظيم الموائد والاعتناء بصنوف الطعام وأطايبه عن اهتمامه بالنظافة ، إذ كان شديد الحرص على تطبيق أصولها وأخذ التدابير اللازمة لتحقيقها ، ومنها أن يوضع الطست وهو إناء كبير من نحاس يستخدم لغسل اليدين تحمله إحدى الجواري أو الغلمان أمام الضيف لتنظيف يديه وتفقد أظافره قبل الأكل ، يحكى أن رجلاً غسل يديه في حضرة المأمون وبعد أن فرغ وضع يده على رأسه فأمره المأمون بإعادة غسل يديه ثم ما لبث الرجل أن حك لحيته فأمره المأمون مرة أخرى بغسل يديه وقال له : " لا يلي غسل اليد إلا الخبز" .
ولمّا كانت الابتسامة والكلمة الطيبة سبب لنيل رضى الله ومحبته ووسيلة تبنى عليها علاقات المودة فلم يبخل بها المأمون على ضيوفه ، وقد جاء على لسان عمه إبراهيم بن المهدي أن المأمون إذا ما استقبل الضيف كان واسع الصدر طلقاً ظريفاً بطيء الغضب سخياً كريماً صاحب بشر، وذكر أيضاً عبدالله بن طاهر والي خرسان أن المأمون كان فيه ما فيه من رونق الحديث ، وكان إذا جلس للطعام فإنه يبدأ بالإشارة الى فوائد الأكلة ومضارها وتأثيرها على من يتناولها وإن كانت تزيل بعض الأمراض أو تداوي شيء من الآلام .
وأكثر ما كان يأكل المأمون اللحم وخاصة لحم الجدي الذي يتخذه من أسمن ما يكون من الجداء ، وأكثر ما كان يفضل من الذبحة الضلع والفخذ ، وكان يوصي بوضع المطيبات اليابسة والشبت والعود وماء الورد مع إضافة شي من الخضراوات كالبصل والجزر للحم ، وهناك وصفات من الطعام كانت تعد خصيصاً للمأمون وتسمى باسمه كالخبيصة المأمونية ، ومهلبية وحمّاضيّة المأمون ، أما الاكلة الدسمة التي كانت تعد له فهي لحم حمار الوحش ، حيث تطبخ الذبيحة بأكملها فإذا نضجت صفُّ اللحم بقدرٍ كبير ثم يوضع في منتصفه القدر الرأس وحوله الكثير من المحاشي ويزيّن بالكزبرة الخضراء .
وفي نوع من التحدي اللطيف كان المأمون يعقد مسابقات في إعداد الطعام مع عمه إبراهيم المهدي الذي كان لا يقل عنه مهارةً في الطبخ ، يتسابق الإثنان في منافسات قوية لصنع أطباق غير اعتيادية لتظهر مهارة كل منهما في إعداد أطيب الأكلات ، ويكافح الطرفان لدمج المكونات المختلفة مع غريب البهارات والأبزار القادمة من بلاد فارس للوصول الى إبداعات مبهجة ، وفي نهاية المطاف يبدع إبراهيم بن المهدي القصائد والاشعار التي تحتفي بالأطعمة والحلويات والشراب .
المصادر والمراجع :
-الوراق ، ابي محمد الظفر بن نصر بن سيار ، كتاب الطبيخ ، دار صادر ، بيروت ، 2012م .
-السبكي ، تقي الدين عبد الوهاب بن تقي الدين ، طبقات الشافعية الكبرى ، تحقيق : محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو ، هجر للطباعة والنشر ، ط2 ، 1413ه ، ج2 .
-بامخرمة ، أبو محمد الطيب بن عبد الله الحضرمي الشافعي ، قلادة النحر في وفيات اعيان الدهر، دار المهاج ، جدة ، 2008م ، ج2 .
-عابدين ، سامي ، الغناء في قصر الخليفة المأمون وأثره على العصر العباسي ، دار الحرف العربي ، بيروت ، 2004م .