القلعة نيوز:
تباريح من الوجد ننسجها
على بساط الخالد من الشعر، وهو جنى لهيب قلوب الشعراء الأحرار الذين خصّهم الله
بعواطف شفافة، وعقول حكيمة، وألسنة ذربة تعبّر ببلاغة عن مكنوناتهم، وتكون مرآة
صادقة لمشاعر الآخرين ممّن يشاركونهم آمالهم وآلامهم.
ونرى في الشعر ينابيع
الجوى، ونطوف معه إلى قطوف الماضي لنستشرف المستقبل، ونغوص في نفثات مَن مضَوا
وقضَوا لنجتني ذؤابة تجاربهم، ورحيق حكمتهم، ونستنطقها لعلها تشفّ لنا عن أسباب
مرارة واقعنا، وتكشف علل علّتنا، وتفكّ طلاسم تضعضع أحوالنا.....إلخ
أمة تشكّل ربع المعمورة
تقريبا سكانا ومساحة، تغرق بالخيرات فوق الأرض وتحتها، وموقعها قلب الدنيا وعصب
الاقتصاد، تتكئ على إرث مجيد من رسالة خاتمة خالدة، ونبي عظيم كريم، ووسام شرف
إلهي بأنها خير أمة أخرجت للناس، وبطولات عزّ نظيرها، وثورة علمية عمّ نورها الدنيا
بأسرها.....
لكنها سلكت لقرون خلتْ
دروب التردّي، وما زالت تتدانى من عُلاً، وتغادر القمم التي تستحقها نحو السفوح
والبقاع والقيعان حتى غدت أمثولة للتأخر والتخلف والاستكانة والهوان.....
والواقع الماثل أمامنا
عيانا يصرخ في أعماقنا، ويزلزل ضمائرنا، ويجلجل نداؤه ويصكّ منا الآذان بسؤال يصدع
فينا كلّ وجدان :
هل نحن حقا تلك الأمة
التي طوّعت دنيا العالم القديم برا وبحرا في بضعة عقود، ودانت لها الممالك
والإمبراطوريات، وأُهدي إلى أبطالها الغرّ الميامين تراب الصين في صفائح الذهب مع الجزية
وضروب الولاء والطاعة؟؟!!
ولعل هذا السؤال هو الذي
فجّر الحنين في قلب "عمر أبو ريشة" عندما قال :
أمتي هل لك بين
الأمم مِنـبرٌ للــسيف أو
للقـــلمِ
أتلقّاكِ وطرفي مُطــرقٌ خجلاً من أمسكِ المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي
عابثاً ببقــايـا كبـــريـــاءِ
الألـــمِ
وما زال الصدى يردد في
أجواء المدى عنجهية "عمرو بن كلثوم" وكبرياءَه الأسطوري :
بأنّا نــوردُ الــرايـــاتِ
بِيـضاً ونصدرهنَّ حُمراً قدْ
روينا
ونشربُ إنْ وردنا الماءَ
صفواً ويشربُ غيرُنا كدراً و طينا
إذا بــلــغَ الفــطـــامَ
لـنـا صبيٌّ تــخرُّ لــه الـجبابرُ
ساجدينا
فأين نحن الآن من هذا
النفَس العروبيّ الأبي؟؟؟!
هل كذب "أبو فراس
الحمداني" عندما اختصر حكايتنا، ورسم ملامح شخصيتنا، وحدّد موقعنا بين الأمم
حين وقف على حافة الأعراف بين الموت والحياة؟:
وقال أُصَيْحابي الفرارُ
أو الردى؟ فقلت:هما أمران أحلاهما
مُرُّ
لكن مِرجل الإباء في
صدره اغتلى، فاعتلى الاختيار الأقسى والأسمى :
ونحن أُنــاسٌ لا تــوسُّطَ
عنــدنـا لنا الصدرُ دون العالمين
أو القبرُ
تهونُ علينا في المعالي
نـــفوسُنا ومن
خَطَبَ الحسناءَ لم يُغله المَهرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى
ذوي العُلا وأكرمُ مَن فوقَ الترابِ ولا فخرُ
أليست هذه البذرة هي
التي طرحت مقولة "عمر المختار": نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نموت؟؟؟ ثم
أثمرت عبارة: وإنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد؟؟!!
أحاط الأعداء، طُلاب ثأر
الكلمة السامّة الحرّاقة بالمتنبي، فبحث عن سراب الحياة الفانية عبر الفرار، لكنّ
قاتله صاح به : إلى أين يا أبا الطيب؟! ألست القائل :
الخيلُ والليلُ
والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ
والقِرطاسُ والقلمُ؟؟!
فردَّ عليه المتنبي : يا
هذا، لقد قتلتني، ونعيتَ إليّ نفسي، فلوى عنان فرسه نحو حتفه المحتوم..... لكنه
عاش حيث مات!!!
فالحياة الحقيقية تكون
بطيب الذكر بعد الممات، قالها "شوقي" :
دقّاتُ قــلبِ الــمــرءِ
قــائلةٌ لهُ إنّ الحياةَ دقائقٌ
وثواني
فارفعْ لنفسك بعد موتكَ
ذِكرها فالذكرُ للإنسانِ عمرٌ ثاني
ليت أمتنا تستقرئ
التاريخ فتعتبر بأنّ الحياة الذليلة ليست حياة!!!
أدركها "عنترة"
وهو يرعى الغنم، وغابت عنا فاستمرأنا المهانة:
لا تسقني كأسَ الحياةِ
بذِلةٍ بل فاسقني بالعزِّ كأسَ الحنظلِ
طلبُ العزِّ ذاك كان
الوقود الذي شحن قلبَ "امرئِ القيس"، فاندفع يجوبُ الفيافي نحو بلاد
الروم استنصارا ليستردَّ مُلك أبيه القتيل، فجرى الحوار الشفيف المرير بينه وبين
صديقه مُصاحبه في السفر نحو المجهول المخيف، فتمَّ تحديد الهدف بدقة وعناية وحزم
ووضوح رؤية:
بكى صاحبي لمّا رأى
الموتَ دونَه وأيـقــنَ أنّا لاحـقـان بقيــصرا
فــقلــتُ لــه لا تـبــكِ
عـيــنُك إنّما نحاولُ مُلكا
أو نموت فنُعذرا
ولعل مثل هذه المشاعر
الجيّاشة، وتأرجح القلوب بين الحرص على حياة الأنعام، واقتحام الأهوال للظفر بمقعد
في مركب المغامرة العاصفة نحو الكرامة، هو الذي أضنى "سميح القاسم"،
فتناثر الأُقحوان من أشجانه، وسال دم الأَرجوان على لسانه، وإنْ كنّا لا نعذره
بشطر من المشاعر عند الغمز ببعض الشعائر: