
"عندما يصبح «الترند» هو المعلم"
"وحين يتوارى العقل وتنهزم القيم”
القلعة نيوز:
الصحفي محمد الفايز
جيل التطبيقات الرقمية، ليس جيلًا سيئًا بطبعه، ولا ضحية تطوّر تقني، بل هو ابنُ فراغٍ تربوي، ورهينةُ غيابٍ عاطفي، ونتاجُ تسليمٍ مطلق للهواتف دون رقابة أو توجيه.
فعندما يصبح «الترند» هو المعلم، ويكون الطفل نَهِمًا للانبهار، ولا يجد من يعلمه التمييز، يستهلك كل ما يظهر أمامه، ضحك، صراخ، تحديات عبثية، تقليد أعمى… ثم يُقلد ويُعجب ويشارك، ظانًّا أن هذا هو العادي، بل الجميل.
نلوم من جعل الفوضى سُلّمًا للشهرة، والتفاهةَ علمًا يُتداول، لجيلٌ لم يختر أدواته، بل تسلَّمها من بالغين باعوا عقولهم مقابل المال، لسنا ضد التقنية، ولا ضد المتعة، بل ضد أن تتحول التفاهة إلى معيار، والمحتوى الهابط إلى قدوة.
فإذا أعجب الأب قبل الطفل بمقاطع السطحية، واحتفى بها، فكيف يُلام الابن إذا رأى فيها القدوة والمحتوى معًا؟، قال سقراط "ابدأ بتربية نفسك، إن أردت إصلاح أبنائك”، فمتى نربّي الراشد قبل أن نوجّه الطفل؟، وعندما نرى الكلمة تُداس، والمعنى يُشوّه، والمعرفة تُبتذل، لا سيما حين يتصدّر الجهلُ منصاتٍ خُلقَت لتكون نافذة للعالم والمعرفه والتوعية، والترفيه بقواعد نبيلة.
فحين يضيع التمييز بين النافع والضار مع الطوفان الرقمي، استذكر مقولة لنيتشه "من يقاتل الوحوش عليه أن يحذر ألا يتحول هو إلى وحش”، ولعل هذا هو حال من يقتحم هذه الفضاءات الرقمية دون وعي، فبين محتوى تربوي رصين، يحاكي العقل والقلب، ومحتوى هابطٍ يجذب البصر ويُميت البصيرة، ضاع ميزان التمييز عند من لم يكتمل نضجه، وهنا المفارقة؛ فالعقلاء لا يقلقوننا، إذ يرون السطحية ويهزؤون بها، لكن الخوف كل الخوف على الناشئة الذين يُشكل وعيهم بهذه "السموم الرقمية” وهم يظنونها ترفيها.
لسنا ممن يلعنون "جيل التطبيقات”، فالأجيال تُنتَج، لا تُلام، والأطفال مرآةٌ للكبار، لا صنّاع قرارات، كما قال سقراط "الطفل روحٌ تكتمل بصقلٍ ورعاية”، فأيُّ صقلٍ وأيُّ رعايةٍ نرجو، إذا كان الراشدون أنفسهم قد باعوا عقولهم مقابل مشاهدة وإعجاب؟!، فكيف بأبٍ غافل، وأمٍّ مشغولة، ومُعلّمٍ مقيّد، وشاشةٍ حرة طليقة لا تعرف حرمة ولا حدودًا؟
إنّ من يتابع بعض ما يُنشر وما أنزل بها من سلطان، وكأنه عصر غُيِّب فيه سلطان العقل، وارتفع فيه لواء التفاهة، حتى غدت قاعدةً لا استثناء، كما قال ابن خلدون: "إذا رأيت الناس تكثر الترف، فاعلم أن الدولة في طريقها إلى الزوال”، فكيف الحال إذا كان الترف الذي نقصده ليس في اللباس والطعام، بل في المعنى والفكر والمحتوى؟!
نعم، لا ننكر وجود صنّاع محتوى أفذاذ، لهم رسائل تعليمية، وأطباء، ومربين، يُقدّمون الخير علمًا وسلوكًا، فنجلّهم ونرفع لهم القبعة، ولكن، كم نسبتهم؟، وكم من طفل يتابع معلّم الرياضيات، مقارنةً بمتابعة مهرّج المقالب؟ وكم من مراهق ينصت لنصائح الطبيب النفسي، ويعرض عن من يصرخ بجنون ويثير الجدل؟ وكم من شاب يتابع برامج دينية، مقارنتة بعدد متابعين محتوى عقوق الوالدين استهزاء من اجل الترند.
فكيف للطفل ان يفرّق بين الصواب والخطأ، إذا كان كل ما حوله يُصفّق للخطأ، ويُهمل الصواب، وهنا مربط الفرس، نحن لا نُحارب التطبيقات، ولا نرفض الحداثة، لكننا نرفض أن يكون الجهلُ نجمًا، والفراغُ قائدًا، والتفاهةُ مدرسةً.
وليس المشكلة بالتطبيقات، بل نحنُ الذين، نصنع المحتوى والذين نراقب ونوجه، وقال الحق {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}, فلنبدأ نحنُ بالتغيير الآباء، المعلمون، الإعلاميون، صنّاع المحتوى، فلنكن قدوةً في القول والفعل، فلا يكفي أن نلعن الظلام، بل لنُشعل شمعة وعي في عقل كل طفل، لنزرع فيهم فِكرًا، لا فكرة عابرة، ولنُربّيهم على الاختيار لا الانبهار، وعلى السؤال لا الاستسلام، وعلى الوعي لا الاتباع، فالجيل لا يُلام بل يُقوَّم، والتطبيق لا يُدان بل يُوظّف، وأما نحن فإما أن نكون في صف التغيير، أو نُساق مع التيار، ونغرق، ولا نشعر.
وإن لم نُشعل في الطفل نور الفكرة، اقتاده ضوء الشاشة إلى عتمة المحتوى، وإن لم نُربِّ أبناءنا اليوم، فسيربّيهم "الترند” غدًا، ونتحمّل نحن النتيجة، فلنبدأ بأنفسنا، ونرتقِ بمحتوانا، ونتفاعل مع ما ينفع، لا ما يُضحك فقط، فليس كل ما يُشاهد يُحتذى، فنحن المشكلة ونحن الحل، فالتربية بالشراكة لا بالتخلّي، كي لا تنتصر التفاهة.