
لم التجاهل الصامت...
القلعة نيوز -
هل نعيش حالة من التجاهل؟ ما يحدث في العالم اليوم يضع العالم على مفترق طرق، وهو – كما يتداول الكثيرون من الباحثين والأكاديميين والسياسيين – حالة من التجاهل المقصود.
يبدو أننا جميعًا لا ندري إلى أين ستقودنا هذه الحالة، وهنا أقول "جميعًا" لأن الكادر الرسمي في العالم اليوم ليس على مستوى الأحداث. وهذا ليس قولي فقط، فالفريق السياسي الذي يحيط بالرئيس الأمريكي، فضلًا عن الرئيس نفسه، لا يُرضي الصديق ولا الداخل الأمريكي.
وهنا تجد أن التوقعات محبطة من المستقبل، والقادة السياسيون في العالم، سواء في أوروبا أو في الكيان، هم أيضًا في وضع مشابه. ولا نستطيع أن نتجاوز الحالة الإسلامية والعربية، وما تعاني منه من تفكك وضياع، وعدم وحدة في الموقف أو السياسة.
ويبدو أن هذا الوضع هو تمامًا ما يحدث في روسيا، مع اختلاف في الإمكانيات؛ فالروس قادرون على الاستمرار في حرب أوكرانيا بالرغم من الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد. ويبدو أن هذا هو حال الروس في القديم والحديث، لديهم قدرة كبيرة على تحمّل الخسائر، والصبر عليها حتى يتم استنزاف الجهة المقابلة. فهذا ما فعلوه مع نابليون وهتلر.
في المقابل، تقف الصين وكأن القيادة والدولة والشعب يسيرون بخطى واضحة، وصبرٍ منقطع النظير للوصول إلى أهدافهم المنشودة. وهنا يحضرني قول رئيس تنفيذي لأحد مصانع السيارات عندهم، عندما قال للألمان سابقًا: "لا ينبغي للخادم أن يتطلع لأن يسبق سيده"، وهذه العبارة جعلت الألمان مطمئنين لأن الصين لا تسعى للتقدم عليهم.
ولكن الصين اليوم تقدمت في الكثير من المجالات، وتسعى الدول الغربية للاستفادة من هذه القدرات والتقدم المذهل الذي وصلت إليه. بل إن شركة "بي واي دي" و"هواوي" وغيرهما من الشركات الصينية، تقدّم ما لا تستطيع الشركات الأوروبية والأمريكية تقديمه. وليس آخر شيء هو نظام التشغيل والقيادة والتحكم الذي وضعته "بي واي دي" في كل مركباتها، حتى النسخة الشعبية منها، والذي يعتبر متفوقًا حتى على مقاييس "تيسلا"، التي تتقاضى مقابله من عملائها ثمنًا ضخمًا واشتراكًا شهريًا للحصول عليه.
الصين تسير بخطى ثابتة واستراتيجية نحو أهداف وضعتها لنفسها، لكنها أيضًا تعيش حالة من التجاهل الصامت للكثير من القضايا التي تمسّها بشكل مباشر، أو تؤثر عليها بشكل غير مباشر، وتؤثر في هذا العالم الذي نعيش فيه جميعًا.
التجاهل الصامت، وحسب تعبير سياسيين معتبرين، منهم جون ميرشايمر ونعوم تشومسكي وغيرهم، ستدفع الحضارة الغربية ثمنًا باهظًا له. ولذلك تجدهم ينطلقون محذّرين من مغبّة ما يحدث. أكيدًا لا يؤلمهم ما يحدث في غزة، فضلًا عن فلسطين، التي تدفع يوميًا ثمنًا باهظًا لهذا الاحتلال.
ولكنهم أيضًا يتجاهلون بشكل صامت ما يحدث في أوروبا؛ فقد تجاوز عدد الضحايا – وحسب الحكومة البريطانية – المليون قتيل، أو ربع مليون على أقل تقدير. ومع ذلك تضغط الحكومات الأوروبية – التي وقعت ضحية لتوقعات وتطلعات وزارة الخارجية الأمريكية – لزيادة أمد الحرب، على أمل الوصول إلى نقطة تنكسر عندها القوة الروسية، وينتهي هذا الكابوس الذي يراقبونه ويتجاهلون نتائجه.
وتدفع الشعوب على الجهتين، الروسية والأوكرانية – والتي كانت تُعدّ شعبًا واحدًا حتى تاريخ قريب – ثمن هذا الصراع. ولكن لو كانت هذه الخسائر على الجانب الأمريكي أو الأوروبي، فماذا سيكون موقفهم؟ فهذه الدماء التي تسيل ليست دماءً بيضاء مقدسة. فأوروبا لم تكن تعد روسيا يومًا منها، فضلًا عن أن تعتبر الدماء المسلمة التي تسقط في فلسطين أمرًا يستحق التحرك، وهم من جاء بهذا الاستعمار ويدعمه بالغالي والنفيس من أجل أن يستمر.
لكن هناك تجاهلًا في العالم الإسلامي والعربي يرقى إلى مستوى الاشتراك في الجريمة التي تحدث. حقيقة، لا أتبنّى فكر المؤامرة الكونية، ولا العمالة المطلقة أيضًا، ولكن الوضع العالمي اليوم غاية في التعقيد، ويخلق أوضاعًا تضع الجميع في مواقف تقيّد الحركة، وتعطّل الفاعلية على مستوى القيادة والشعوب أيضًا.
لك أن تتخيل أن أمة إسلامية تتجاوز المليار، لا تملك مؤسسات مجتمع مدني، ولا مؤسسات دينية قادرة على إحداث الضغط للتغيير. ولا تملك وسائل ضغط اجتماعي تنسّق الحركات المجتمعية عبر هذا العالم الممتد.
ولا تملك وسائل اقتصادية تنسّق فيما بينها لتُحدث تأثيرًا ساحقًا على تلك المؤسسات التي تساعد وتساهم في هذه الإبادة الجماعية لفئة من المسلمين، سواء من خلال المقاطعة لشركات أو منتجات أو خدمات لها مواقف داعمة لهذه الفئة المجرمة. ولا زخم سياسي رسمي، ولا مواقع تواصل شعبية قادرة على التأثير والتغيير، ولا وسائل مساعدة في هذا العالم الافتراضي قادرة على خلق جو عام عالمي، يضغط في سبيل تحقيق العدالة لهذه الفئة المظلومة، ويحقن الدماء، ويوقف هذه الإبادة الجماعية التي يقوم بها هؤلاء المجرمون في هذا الكيان.
ولمن يظن أن فقدان الفاعلية هو إسلامي فقط، عليه أن يتذكر بأن أوروبا وأمريكا أيضًا تعانيان من نتائج فقدان الفاعلية الشعبية، وتدفع شعوبها ثمنًا باهظًا لأطماع فئة معينة تسيطر على عالم السياسة أو تجارة الأسلحة أو الاقتصاد.
وما قامت به الطغمة الحاكمة في أوكرانيا ساهم في إدخال كل أوروبا في نفق مظلم، ودفع الشعبين ثمنًا باهظًا من الدماء، مقابل سياسات وإملاءات خارجية ضد مصلحة هذه الشعوب. إلى أين تتجه محصلة القوى العالمية اليوم؟ وهل ستوقظ ماردًا هنا أو هناك؟ فروسيا ما زال في جعبتها الكثير، والصين ليست بالمراقب السهل.
أوروبا عجوز شمطاء، عاشت دهرًا على السرقة والتطفل والاستعمار، ولا تملك اليوم دماءً ولا أسلحة قادرة على إحداث تغيير. وهناك يقف مجنون يقول بأنه مجنون، يملك معظم القوة المؤثرة في هذا العالم.
ونحن نراقب... بتجاهلٍ صامت.
إبراهيم أبو حويله