وُلِد الهدى...
الحلقة التاسعة
القلعة نيوز ـ
سلسلة من إضاءات في حياة سيد الخلق ﷺ، تسعى لإضاءة جوانب مختلفة من حياته، وتهدف إلى إحداث نقلة من الفهم النظري إلى التطبيق العملي، الذي قد يُخرجنا ويُخرج الأمة من هذا الوضع الذي نعيش فيه.
عندما تنازع الصحابة...
ما قام به الصحابة في أحداث صفين لا يخلو من تجاوزات، ولكن في المجمل استطاعت الأمة ضبط الحركة والخروج من الأزمة، بفضل رجال مثل الحسن بن علي رضي الله عنه، والذي أخبر عنه الرسول صلوات ربي وسلامه عليه أنه يُصلح بين فئتين عظيمتين من الأمة. فكان الدفع الحضاري لهؤلاء هو ما ساهم في أن تتجاوز هذه الأمة ألفًا وأربعمائة عام، وبعضها يحمل بعضًا، وعلماؤها يحملون همّها ويجمعون شملها، وأغلب حكّامها يحرصون عليها ويحمون بيضتها، ويلملمون ما تفرّق من أمرها.
وإلا لاندثرت هذه الأمة منذ زمن بعيد، وظل الأمر هكذا صعودًا وهبوطًا، حتى ابتُلينا بهذا الزمان بهذه الفئة التي ترى الفردانية منهجًا والجماعة أُمّة، فضاعت الدول وضاعت الأمة، وصِرنا غُثاء كغُثاء السيل، وأصبحنا قصعةً تتداعى عليها الأمم، وضاعت بيضتنا وأضعنا هيبتنا. فلو استمر تنازع الصحابة على السلطة لضاعوا وأضاعوا الدين في مولده، ولو تنازعوا الفهم لضاعوا أيضًا، ولكنهم تقبّلوا الخلاف وسعوا إلى مصلحة الأمة في المجمل. فكانت الحكمة أن تتنازل عن السلطة لأجل الحفاظ على الأمة، وتتجنّب النزاع والاختلاف لتحافظ على الأمة، وهذا ما حدث في الأعم الأغلب.
الهدف الأساسي للداعية أراه واضحًا في الوقت الذي بدأت فيه الدعوة إلى الإسلام، لم يكن سعي الرسول ﷺ إلى مالٍ ولا ملكٍ ولا قضاء، كان سعيه: «خلّوا بيني وبين الناس». وفي قصة الوليد بن المغيرة التي يرويها ابن هشام وابن كثير، والتي عُرض عليه فيها المال والملك والزواج والعلاج إن كان الذي به يستوجب العلاج، لكنّ ردّ النبي الصاعق كان آياتٍ من القرآن الكريم من سورة فصلت، تطلب تدبّر وفهم هذا الكتاب العربي، وتبيّن أن الرسول ما هو إلا بشيرٌ ونذيرٌ مكلّف بتبليغ هذا الأمر لكم، وأنّ إلهكم إلهٌ واحدٌ يطلب منكم الاستقامة وعمل الصالحات، فإن أعرضتم فأنتم معرِضون لصاعقة تصيبكم كما أصابت قوم عادٍ وثمود. عندها وضع المغيرة يده على فم الرسول وقال: كفى كفى، وناشده اللهَ والرحم.
نحن اليوم – إلا من رحم ربي – نزعم أننا دعاة، ونحن في الحقيقة قضاة؛ نصنّف هذا وذاك، ونقبل هذا ولا نقبل ذلك، ونريد أن يكون الجميع صورةً منّا، لا صورةً أخرى، ولا فهمًا آخر، ولا شيئًا آخر. ونفعل كما فعلت أهل الملل السابقة، نفسّر آيات الله وفق فهم بعضنا وقدراتهم، ونزعم أن هذا هو الحدّ النهائي، وأن من خالفه فقد خالف دين الله.
لقد أخرجت الجماعاتُ الدولَ عن مقاصدها، وأخرجت الدولُ الأمةَ عن مقصدها، وأصبح هذا حالنا، نخاف من بعضنا، ولا يأمن بعضنا بعضًا، وكلّ ما اتصل بالدين أو بعضه أصبح موضع تهمةٍ وسؤال، فانحرف الفرد، وانحرفت الدول، وانحرفت الأمة عن مقصدها.
ومن فارق هذه الجماعة أو تلك فقد فارق دين الله حسب فهمنا، ونسعى للملك والجاه والسلطة في المجمل؛ فهذه جماعة تريد الخلافة، وتلك تريد السلطة، وهذه تريد الطاعة المطلقة لوليّ أمرها. عجبًا لكم! فرّقتم الجمع، وشتّتتم الشمل، وجعلتم الحاكم يحارب الإسلام خوفًا من تلك الجماعات التي تسعى إلى كرسيّه، وصنّفتم البشر: هذا إلى الجنة، وذاك إلى النار، وإن كان بشكل غير مباشر، ولكنه مباشر.
لن تكون هناك أمة قادرة على تحقيق أيّ هدفٍ في الحياة، إلا إذا كان هناك فرد يعرف تمامًا الفرق بين أن تكون فردًا، وأن تكون عضوًا في أمة. ولن تقوم دولة تستطيع أن تحافظ على نفسها وأفرادها، إلا إذا كان الجميع فيها أفرادًا وقبائلَ وجماعاتٍ على قلب رجلٍ واحد. ولن تُشكّل مجموعة الدول أمة، إلا إذا كان هناك أمرٌ مشتركٌ يجمعها، ومجموعة من القيم توحّدها، وهذا ما تحظى به الدول الإسلامية جميعها، فهي لديها أرضية مشتركة، ولكن ينقصها شيء.
هل نحن في الحقيقة من أضاع الدين بسعينا لهذه المفاهيم، وحصر الدين في هذا الفهم الضيّق أو ذاك؟ هل حقًّا نتقبّل الآخر والمخالف، ونقول لمن ملكتهم أيدينا: اذهبوا فأنتم الطلقاء؟ هل حقًّا نسعى لفهم الدين بناءً على مقاصده، وعلى منهج منزّله جلّ في علاه؟ أم نريدها خلافةً وحكمًا وملكًا بصورة دينية، وبالتالي سلطةً تتحكّم في حياة الناس ورقابهم وأموالهم وأعراضهم وفق فهمنا ورغباتنا؟ بحيث اقتنع العامة أن بحث البعض من هذه الجماعات هو عن عزة الدين وعودته إلى الحياة منهجًا، ولكن منهج رجالها – أو الكثير منهم – هو في الحقيقة يساهم في محاربة الدين وعزله عن المجتمع، كما شاهدنا في بعض مناطق التوتر. وهنا أنا لا أتهم النيات، ولكن أتهم التصرفات.
لقد خلقنا نزعةً سلطويةً انتهازية بهذه الجماعات – للأسف – وأخرجنا مفهوم الدين عن حقيقته، إلا من رحم ربي طبعًا. وهنا لا أقصد التصرفات الفردية، ولكن منهج الجماعات ودورها في الحفاظ على بيضة الأمة، بحيث أصبحت محاربة هذه الجماعات هي في الحقيقة محاربةً للدين. وحسب فهمي، فإن هذه الجماعات هي سببٌ رئيسيٌّ فيما وصلنا إليه اليوم، فقد صنّفت، وعزلت، وحاكمت، وجعلت هذا مقبولًا وذاك غير مقبول.
فانتقل الأمر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الدين حسب مقاصده وفهم علمائه، إلى الانضمام إلى هذه الجماعة أو تلك أو قبولها، وانتقل فهم الدين إلى فهم هذه الجماعة أو تلك، وأصبحت هي القائمة عليه وصاحبة الولاية فيه. وخرجنا من عباءة الأمة والإجماع والعلم والدين، إلى عباءة الجماعات وتصنيفاتها، فضيّعنا وأضعنا.
والمخرج من هذا – كما يرى أكثر من باحث – هو في الحفاظ على الدول بشكلها الحالي، وتصويب أمرها وما انحرف من منهجها، وإحياء مفهوم الأمة على أساس التعاون الإلزامي بين هذه الدول بصورة تحالف أو اتحاد أو غيره، بحيث تتم مراعاة الأمة منهجًا ومقصدًا وبيضةً ومصلحة، ومراعاة مصالحها ومصالح أفرادها.
ويُحفَظ لها ثرواتها وحدودها ودينها، ويُحفَظ دين الأمة وما ضعف من دولها. وهذا ما نراه في حلف الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي مثلًا، وهو ليس فكرةً بعيدةً ولا مستحيلة. وبعيدًا عن هذا، فإن طريق وحدة الأمة في ظل هذه الظروف لا يعدو كونه طريقًا مستحيلًا، فضلًا عن كونه قد يجرّ بلاءً عظيمًا. وما قامت به الجماعات التي تزعم أو تتصل أو تم تأسيسها بشبهةٍ للإساءة للدين في مناطق التوتر أكبر شاهدٍ على ذلك.
لا بدّ لهذه الدول بصورتها الحالية أن تجد طريقًا لإحياء مفهوم الأمة الإسلامية، وإلا ستبقى هيبتها منزوعة، وقرارها مجزوءًا وضعيفًا، وقابلًا للسيطرة عليه ممن شكّل اتحاداتٍ ودولًا عظمى وجيوشًا جرّارة.
إبراهيم أبو حويله .




