جمعة الشوابكة
يُعدّ القرار السياسي عنصرًا جوهريًا في بنية الدول الحديثة، إذ تتشابك فيه الأبعاد الداخلية والخارجية لتُشكّل منظومة ديناميكية معقّدة تحكم مسار السياسات العامة وتوجّه أولويات الحكومات. فالقرار في جوهره ليس فعلًا لحظة، بل نتاج تفاعلٍ مستمر بين الإرادة الوطنية والبيئة الدولية، حيث تتقاطع المصالح وتتداخل الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية في آنٍ واحد.
على الصعيد الداخلي، تعتمد فعالية القرار على مدى كفاءة المؤسسات العامة وقدرتها على التخطيط والتنفيذ والمراجعة. فكلما كانت المؤسسات أكثر مرونة وشفافية، ازدادت قدرة الدولة على اتخاذ قرارات مستقلة تحقق التنمية والاستقرار. أما في حال ضعف الإدارة أو البيروقراطية، فيتراجع أثر القرار ويغيب الانسجام بين السياسات العامة وأولويات المجتمع.
أما خارجيًا، فقد أصبحت السياسات الوطنية في كثير من الأحيان مرتبطة بتوازنات الاقتصاد العالمي والتحالفات الإقليمية. فالمؤسسات المالية الدولية والتكتلات الاقتصادية الكبرى تؤثر بدرجات متفاوتة في توجهات الدول، سواء عبر التمويل أو من خلال اشتراطات الإصلاح الاقتصادي. وهذا الارتباط يجعل القرار السياسي عرضة لتأثير القوى الكبرى، ويحد أحيانًا من حرية الدولة في تحديد أولوياتها الداخلية.
وتبرز في هذا السياق أهمية الثقافة السياسية والمجتمعية في تحديد طبيعة القرار. فالمجتمعات التي تعزز ثقافة المشاركة والمساءلة تمتلك قرارات أكثر واقعية واستقرارًا، لأنها تنطلق من قاعدة تفاهم بين الدولة والمواطن. في المقابل، يؤدي غياب الحوار وضعف الوعي السياسي إلى قرارات قصيرة المدى لا تستجيب لمتطلبات التنمية أو التغيير الحقيقي.
وفي العصر الرقمي، أصبحت التكنولوجيا والإعلام الجديد مؤثرًا أساسيًا في بيئة القرار. فوسائل التواصل الاجتماعي غيّرت العلاقة بين المواطن وصانع القرار، وأصبحت ساحة للنقاش والضغط والرقابة، لكنها في الوقت ذاته فتحت المجال للمعلومات المضللة والاستقطاب، ما يجعل بيئة القرار أكثر حساسية وتعقيدًا.
إنّ التحدي الحقيقي أمام الدول اليوم هو إيجاد توازنٍ بين السيادة الوطنية والانفتاح الدولي، بحيث تُبنى القرارات على أسس من المصلحة الوطنية دون الانعزال عن العالم. فالقوة في هذا العصر لا تُقاس بحجم النفوذ السياسي فقط، بل بقدرة الدولة على اتخاذ قرارات مستقلة ومرنة تستجيب للتحولات المتسارعة وتحافظ في الوقت ذاته على استقرارها الداخلي وهويتها الوطنية.



