ما
هي ميزة المجتمع المدني الديموقراطي على المجتمعات التي يديرها الاستبداد؟
الميزة الأساسية هي الحرية، الحرية في التعبير
ونشر الأفكار، والحرية أيضاً في استخدام أدوات المجتمع المدني في صراع المصالح.
القاعدة القرآنية تؤسس على نحو بديع للفكرة في ذلك
الجزء بين قلمين من الآية ٤٠ سورة الحج: {... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا...}، طبعاً بالمعنى العام الواسع للصلوات
والبيع والصوامع، فإن ذاك الدفع هو الجدل الحتمي بمعناه الفلسفي المنشئ للتطور.
وذلك الدفع قد يأخذ صيغ جذرية (راديكالية)
العنف-الحرب-الإلغاء-التخوين... الخ، أو يأخذ صيغة بنائية حركية (ديناميكية)، وتلك
الصيغة رهن بطبيعة النظام العام، كلما تكرس الإستبداد اتجه نحو الصيغة الراديكالية
والعكس بالعكس.
لا شك أن المجموعة المستبدة الفاسدة المهيمنة على
مفاصل الثروة والسلطة والقرار، تجد الراحة في صيغة الإستبداد، وترفض الصيغة الحرة
- هذا على جانب أساسي من الأهمية- ليس لأنها ستقصيها وتقضي عليها، ولكن لأنها
ستحرمها من الكثير من المكاسب وترغمها على إعادة إنتاج نفسها، في صيغ أكثر مقبولية
وأقل هيمنة أو بدقة هيمنة مقيدة خاضعة لمفاهيم الصالح العام، وهذا ما يميز
الرأسمالية الليبرالية عن الأوليغارشية الطفيلية (الاقلية المحتكرة لأشكال الثروة
والسلطة والمعتمدة على دور الوكيل لمراكز هيمنة عالمية بأدوار إقتصادية غير مرتبطة
بالانتاج) ليس بالضرورة هنا أننا نكرس انحيازاً للصيغة الرأسمالية الليبرالية
لكننا في هذا المستوى من التحليل نرمي لبيان الفرق بينها وبين الأوليغارشية
الطفيلية.
التعبير الأمثل عن النضال المجتمعي خارج إطار
التصورات الجذرية (الراديكالية) هو في استهداف وتفكيك بنية الإستبداد، بمعنى أن
الخط النضالي الحركي هنا يكرس جهده، من أجل مراكمة مجموعة ضخمة من التحولات
الجزئية في بنية الشكل الإستبدادي، في سلسلة جدلية طويلة من الهدم والبناء، هكذا
تتراكم الجهود النضالية، خلف قضايا الحرية والعدالة الإجتماعية، في صراع جدلي كلما
تقدم تغيرت طبيعة وبنية النظام وأعادت مجموعة المصالح داخله تعريف نفسها (تركيبها
وظيفياً).
هذا الوعي هو الذي جعلنا نؤمن منذ انطلاق الجهود
الرامية لإحياء نقابة المعلمين، بأن المخرج أياً كان مستواه سيصب في نهاية المطاف
في إطار الحد من بشاعة الظلم والفرز الاجتماعي البشع الذي تنتجه الحركة الحرة غير
المقيدة الجشعة للمجموعة الفاسدة المستبدة المهيمنة على مفاصل الثروة والسلطة.
ما نراه اليوم من نضال مطلبي عمالي للمعلمين وما
سيتبعه حتماً لفئات مهنية، سيحد بالضرورة من تغول تلك المجموعة، ومن حالة الدفع
المتسارع لطبقات اجتماعية عريضة نحو الفقر والتهميش والحرمان.
طبيعي ومنطقي تماماً أن يتزعم المعلمون ذلك
التوجه، فالمعلم هو التعبير الأمثل وربما الأنقى عن الطبقة الوسطى، هو ضميرها
وصمام امانها القيمي، وخلاصة ما يدفع له اليوم نضال المعلمين، هو الحد من إن لم
نقل وقف حالة السحق الطبقي الشيعة التي تمارسها الأوليغارشية الطفيلية بحق المجتمع.
المعركة اليوم ليست معركة معلم يبحث عن تحسين
راتب، وإن كان هذا عنوانها، بل معركة مجتمع يدافع عن توازناته الإجتماعية، يدافع
عن توزيع أكثر عدلاً (أقل ظلماً) للدخل، ويضع اليوم على المحك أدوات مجتمعه المدني
وتشكيلاته الجنينة نقابياً وحراكياً وحزبياً، وحتى إعلامه الاجتماعي النوعي
الجديد، ويختبرها معاً، سيكون من الصعب إن لم نقل المستحيل هزيمة هذه البنية،
وستربح واحدة من معاركها المفصلية في سلسلة الصراع، مما يعني وهذه أثمر وأهم
الحصائل، أن المجتمع المدني الأردني أعلن عن نفسه وبدأ يكسب معاركه، وأن على
المناضلين الحقيقين أن يعيدوا تموضعهم داخله، ويتخلوا عن الصيغ الدونكيشوتية
الكلاسيكية في التعامل مع نظم غير مرنة انتجت الخطاب الراديكالي - الجذري التشنج
إسلاموياً كما يساروياً وقوموياً أيضاً.
هناك فرصة حقيقية اليوم في الأردن، عمادها مجتمع
مدني يتشكل ويعبر بشكل شديد الحساسية والفعالية بل والثورية عن طبقة وسطى عريضة،
وكل معركة مهما بدت طرفية أو هامشية أو صغرى (أهمها وآخرها على الإطلاق معركة
المعلمين) مهمة ويبنى عليها.
هذا هو شكل النضال الماجنا كارتي إن جاز التعبير،
نضال التراكم الحقوقي، الذي يعيد تعريف طبيعة الصراع نفسه داخل الدولة وعليها.
أعلى النموذج