القلعة نيوز:
تتقلب القلوب والأنظار
في محاولة فهْم ما جرى ويجري وسيجري في غزة الجريحة، وتلمّس إن كانت القرارات
صائبة والاختيارات صحيحة، فتتشعب الأفكار وتتوارد الخواطر :
يقولون : كان الناس ينعمون بالأمن والأمان، يعيشون في بيوتهم
بين أهلهم وذويهم، يغدون ويروحون إلى جامعاتهم ومدارسهم وأعمالهم ومزارعهم
ومصالحهم ووظائفهم.... يقوتون أُسرهم، ويبنون مستقبلهم، ويحظون بالرعاية الطبية،
وخدمات الهيئات الدولية، وينتظرون الحلول السلمية لإقامة دولتهم الشرعية....
فيقال لهم : هؤلاء أناس سُلبت أوطانهم في أكبر وأقذر سرقة عرفها
التاريخ، جاءهم أشتات غرباء من كافة أرجاء الأرض، تسللوا إليهم ضيوفا أول الأمر،
ثم تكاثروا وتآزروا تحت سمع المستعمر وبصره وتخطيطه ومكره، ونافسوا أصحاب الأرض
الأصليين، ثم صارعوهم فصرعوهم واقتلعوهم من وطنهم وشرّدوهم وحلّوا مكانهم، وسعوا
وما زالوا يسعون بكل وسيلة إلى غصب حقوقهم وإلغاء كينونتهم، وطمس تاريخهم ولغتهم
ودينهم، وإخراجهم من آفاق التاريخ والجغرافيا، بل إفنائِهم من الوجود لينعدم
ذكرهم، ويمّحي أثرهم كأنْ لم يكونوا، ليتبخروا ويذوبوا في طوايا النسيان....
يقولون : كان يمكن الجنوح إلى السلم، واللجوء إلى وجهاء الخير
في الأمم المتحدة، والشكوى إليهم، وعرض الحال أمامهم، وعقد كوفياتهم، والتمسّح
بعباءاتهم، والتملّق والتذلل بين أيديهم، فهذه الهيئة العظيمة خُلقت لحل مثل هذه
الإشكالات، وإنصاف المظاليم، وتشميس المعتدين، وردّ الحقوق لأصحابها الشرعيين.....
فيقال لهم : منذ مائة سنة وأكثر ونحن على هذه الحال، نرفع
الدعاوى، ونسطر الشكاوى، ونُلقي الخطب الرنانة، ونستثير العواطف الدفينة، نبكي في
محافلهم ونستبكي ونطلب أن يرحمونا ويحمونا.... ونتقبل نصائحهم بأن نكون واقعيين،
ونطلب المستطاع كي نطاع، فنتخلى طوعا دون مقابل عن معظم مطالبنا وعزتنا وكرامتنا،
ونكتفي بفتات من حقوقنا، ونرضى بالهمّ على أمل أن يرضى الهمّ بنا، ونبادر إلى
الاعتراف بهم، والجلوس إليهم، ومفاوضتهم على ضفاف البحار والغابات والمنتجعات،
نتذاكى أمامهم ونظهر لهم النعومة والتحضر، ونتظاهر بالفهلوة، وقد نُشهر سلاح
الفحولة إن لزم الأمر.... لنعود أخيرا بمزق من الاتفاقيات المخرومة المخترقة يستظل
تحت كل حرف منها ألف شيطان، ويتوارى خلف كل جدار ألف حجر لسنمّار يكفي أحدها فقط
ليخرّ البنيان كله من القواعد على رؤوس الموقِّعين وآمال المظلومين المنتظرين.
والآن بعد أن سلّمنا
لحانا لهم، وتسلّمنا كتبنا بشمائلنا،وقفنا على الأطلال نرثي حالنا، ونعضّ أصابعنا
ندما وحسرة على مآلنا، ونسكب الدموع الحرّى على ما ضاع من آمالنا.
يقولون : أخذُ الحقّ صنعة، وكان يمكن التأني والصبر لتحين
الفرصة، وتعتدل الموازيين لتكون القوى متكافئة، والمنازلة عادلة، لضمان الحصول على
النتائج المرجوّة، وتحقيق الأهداف المأمولة، فالرأي قبل شجاعة الشجعان، والمراجل
قتّالة، وما جنينا من هذه الشجاعة إلا سحابة دخان من حميد الذكر اعتلت في سمائنا
بضعة أيام، ثم تبددت واختفت لنصحو على ذبح وجرح أزيد من مائة ألف، وتهجير وتشريد
وتجويع شعب كامل، وتدمير كل معالمه وبنيانه....
فيقال لهم : ومتى توقف القتل والسجن والتهجير والتدمير عن هذا
الشعب المظلوم؟! متى رفع السيف عن رقبته وتوقفت المجازر فيه؟! هل هو الذي بدأ
بالعدوان عندما شُرّد من وطنه واجتُثّ من جذوره؟! هل جنى ذنبا عندما دُمرت له خمسمائة
قرية وتمّ محوها من الخريطة؟! متى كان معتديا ومئات الآلاف من بنيه وبناته يبتلعهم
ظلام السجون على تهم ملفّقة؟!
متى كان ظالما وأرضه كل
يوم تُسلب منه وتعطى للدخلاء لتئن جباله تحت مئات مستوطناتهم؟!
قَدَرُ هذا الشعب
المقهور أن يُسند ظهره إلى الحائط الأخير ليواجه الاختيار المرير بين الموت المرّ
والموت الأمَرّ، وليس أمامه أيّ مفر، فلو تُرك القطا ليلا لنام!!
هل يموت حصارا وجوعا
ومرضا وعطشا وذلا وقهرا.....؟! أم تُراه يحاول الظفر بالحياة من براثن الموت،
والنجاة من أظفار المنية الناشبة بين جنبيه؟!
إنْ تجرّأ وتقدّم فهو
أمام موت محتمل، وإنْ جَبُن وتأخر فهو أمام موت محتّم.
تلوح سكاكين الغدر أمام
ناظريه، وتبرق بين عينيه حقائق عروبته وإسلامه وتعاليم دينه "وأعدّوا لهم ما استطعتم"
فيفعل وينتظر وعدا غير مكذوب بالنصر.
وتلوح في مِخياله معارك
المسلمين التي خاضوها بقوة العقيدة، وما كانت يوما قوتهم المادية من عدد وعتاد تكافئ
قوى أعدائهم منذ بدر ومؤته والقادسية واليرموك.... حتى القسطل والكرامة.... وتجري
في شرايينه دماء الإباء العربية منذ عنترة وكأس العزّ المترعة بالحنظل، والحصين بن
الحمام يجد استبقاء الحياة في الهجوم والاقتحام، وعمرو بن الإطنابة يبحث عن حمد
الثبات أو راحة الممات، وأبي فراس الحمداني يحاول المفاضلة بين أحلى المرّين، والخيار
الدامي للحسين المخذول بين المنية والدنية.... ومواقف أليمة مضيئة كثيرة تستعصي
على الحصر في الإقدام نحو الموت العزيز ولفظ الحياة الذليلة.
يركب هذا الشعب المركب
الصعب، ويتلفّع بالخلق الوعر، ويقْدِم غير هيّاب دون أدنى تردد ليشرّف الموت
الزؤام، وهو يردد :
وقد كان
فوتُ الموتِ سهلاً فردّهُ إليه الحِفــاظُ المرُّ والخُـلقُ
الوعـرُ
ونفسٌ تعافُ
العــارَ حتى كــأنّـهُ هو الكفرُ يومَ الروعِ بل دونه الكُفرُ