
القلعة نيوز:
د محمد عبد الحميد الرمامنه
لطالما عُرض التعليم التقني بصورة مشوهة، وكأنّه خيار ثانوي يُفرض على من لم يحالفه الحظ في التعليم الأكاديمي، لا باعتباره مسارًا مستقبليًا يوازي –بل يتفوق أحيانًا على التعليم التقليدي، هذه النظرة التي تراكمت عبر عقود، صنعت فجوة بين ما يطرحه النظام التعليمي وما يحتاجه سوق العمل، فأصبحنا نرى آلاف الخريجين بلا وظيفة، بينما القطاعات الصناعية والخدمية تصرخ طلبًا للمهارات التقنية التي نفتقدها.
المفاجئة التي كشف عنها تقرير اليونسكو لعام 2023 حول التعليم والتدريب المهني والتقني (TVET) في الأردن هي أن نسبة البطالة بين خريجي التعليم المهني والتقني لا تتجاوز 5.4%، في حين أن نسبة البطالة بين خريجي التعليم الجامعي تصل إلى حوالي 25.8% وهذا يضعنا أمام فرصة ذهبية لإعادة صياغة علاقتنا بالتعليم التقني، ليس كمسار بديل، بل كمسار استراتيجي لبناء المستقبل.
الطالب لا يفتقر إلى الطموح، لكنه بحاجة إلى بوصلة ترشده. ما زالت المدارس تقدم له صورة أحادية عن النجاح الأكاديمي، فيما يغيب التوجيه المهني المبكر، ويُترك الطالب أمام خيارات عشوائية عند عتبة الثانوية العامة. هنا تكمن أهمية إدخال برامج إرشاد مهني حقيقية، تستند إلى اختبارات الميول والقدرات، وتتيح للطالب تجربة عملية في الورش والمعامل منذ المراحل الإعدادية. فحين يلمس الطالب شغفه بيده، يصبح اتخاذ القرار أكثر وعيًا ونضجًا.
من غير المنصف أن تظل الجامعات تعرض التعليم التقني كدبلوم محدود الأفق، المطلوب أن تفتح مسارات مزدوجة تسمح بالانتقال إلى البكالوريوس التطبيقي، وتربط مناهجها بقطاعات الاقتصاد الجديد: الطاقة المتجددة، الذكاء الاصطناعي، أمن المعلومات، الزراعة الذكية. عندها فقط يدرك الطالب أن المستقبل لا يُبنى في قاعات المحاضرات النظرية وحدها، بل في المختبرات والمصانع ومراكز الابتكار.
أما الإعلام، فهو القوة الناعمة القادرة على تغيير الصورة النمطية. نحتاج إلى خطاب إيجابي يصف التعليم التقني بأنه مسار الريادة والابتكار، لا خيار من لم يفلح في الأكاديمي. نحتاج إلى قصص نجاح تُروى على الشاشات ومنصات التواصل، عن شباب بدأوا من معاهد تقنية، وانتهوا إلى تأسيس شركات ناجحة أو وظائف مرموقة في الداخل والخارج.
لن يغامر الطالب بدخول تخصص تقني إذا لم يرَ خريطة واضحة لحاجات السوق. وهنا تبرز أهمية تحديث قاعدة بيانات التخصصات المطلوبة بشكل دوري، وربطها بالجامعات والكليات، بحيث تصبح هذه البيانات نقطة ارتكاز لاتخاذ القرار. فالشفافية في عرض فرص العمل وأجور المهن التقنية، قادرة على بناء الثقة في أن التعليم التقني ليس مقامرة، بل استثمار مضمون.
التعليم التقني قادر على أن يكون ثورة صامتة في الأردن، ثورة تخفض نسب البطالة، وتردم الفجوة بين النظرية والتطبيق، وتفتح آفاق الريادة أمام الشباب. لكن هذه الثورة لن تُكتب لها الحياة إلا إذا تحررنا من عقلية الأمس التي أدارت هذا الملف بعرض تقليدي، واعتنقنا عقلية جديدة تُسوّق المستقبل لا الماضي، وتبني الإنسان المهني قبل أن تمنحه شهادة.