د . مرام بني مصطفى / الاستشارية النفسيه والتربوية
في صباحٍ بارد من خريف عمّان، تلقت سلمى اتصالًا قلب حياتها رأسًا على عقب. الخبر كان أن والدها مصاب بورم في جسده هو الشخص الذي كان مصدر الأمان والسكينة في حياتها. شعرت وكأن العالم توقف، وأن الهواء صار ثقيلاً لا يُتنفس. لأيامٍ طويلة، أغلقت باب غرفتها وانهارت في صمتٍ موجع، تتقلب بين البكاء والذهول.
لكن بعد أيام من الألم، نظرت سلمى إلى المرآة وقالت لنفسها: "إن لم أنهض الآن، فسأبقى أسيرة الوجع إلى الأبد ووالدي سوف يزداد سوء.” بدأت تكتب، وتخرج للمشي كل صباح،وتدعمه وتبحث عن الطرق الملائمه للعلاج . ومع مرور الوقت، أدركت أن الشجاعة ليست في إنكار الألم، بل في مواجهته والإيمان بأن للوجع معنى ورسالة.
يُعرّف علم النفس الصدمة بأنها "تجربة مؤلمة تترك آثاراً مستمرة في الذاكرة الانفعالية والمعرفية للفرد،أما الانهيار، فهو رد فعل مؤقت يتعطل فيه التوازن النفسي نتيجة الارتباك العاطفي الحاد.
إنها ليست مرحلة ضعف، بل آلية دفاعية يحاول بها العقل استيعاب ما يفوق قدرته اللحظية.
يرى فرويد أن الصدمة تمثل انقسامًا في بين الوعي واللاوعي، حيث يحاول الإنسان نسيان الألم بينما يظلّ عالقًا في داخله.
والبعض يرى أن الانهيار هو بداية رحلة التغيير نحو الذات الحقيقية، إذ يُجبر الفرد على مواجهة نقاط ضعفه، وبناء قيم جديدة أكثر واقعية ونضجًا.
بينما يذهب فرانكل صاحب النظرية الوجودية إلى أن الإنسان يستطيع أن يجد المعنى حتى في أكثر المواقف إيلامًا، وأن تحويل المعاناة إلى هدف هو ما يفتح الطريق نحو الشفاء.
على الرغم من قسوة التجربة، إلا أن مرحلة الانهيار تحمل قوة تحول داخلية إذا تعاملنا معها بوعي وإيمان،لها العديد من الفوائد على الفرد:
اولاً :إعادة تعريف الذات
تدفع التجربة الصادمة الإنسان إلى مراجعة ذاته، واكتشاف قيمه الحقيقية بعيداً عن الاعتمادية أو الخوف.
ثانيا:.النمو بعد الصدمة
تشير بعض الدراسات إلى أن الأفراد قد يخرجون من الصدمة أكثر قوة، ووعياً، وتوازناً، بعد أن يعيدوا بناء منظومتهم الفكرية والانفعالية.
ثالثا:.تعزيز المرونة النفسية
يتعلم الفرد كيف يواجه الألم دون أن ينهار مجدداً، فيصبح أكثر قدرة على التعامل مع الضغوط المستقبلية بثبات.
رابعا:التعمق الروحي والمعنوي
كثيرون يجدون في الألم طريقًا نحو الإيمان واليقين، فيتولد لديهم شعور داخلي بالسلام والاتزان.
لا يقتصر الشفاء على العلاج النفسي فحسب، بل يمكن أن ينبع من داخل الذات عبر العديد من الخطوات
1.الاعتراف بالألم:
التظاهر بالقوة الزائفة يؤخر التعافي، أما الاعتراف بالمشاعر فهو بداية الطريق نحو التوازن.
2.الدعم الذاتي والإيماني:
الإيمان بالله، والدعاء، وممارسة التأمل الذهني (Mindfulness) تعيد الطمأنينة للنفس.
3.إعادة بناء المعنى:
يمكن تحويل التجربة إلى رسالة عبر الكتابة، أو مساعدة الآخرين، أو التطوع، مما يمنح التجربة قيمة جديدة.
4.الاهتمام بالجسد والنفس:
فممارسة الرياضة، والتغذية السليمة، والنوم المنتظم، جميعها تُسهم في استقرار الجهاز العصبي وتحسين المزاج.
5.تحويل الانهيار إلى نقطة انطلاق بين الفرد وذاته:
عندما نتعامل مع الانكسار كدرس، نصبح أكثر نضجاً وثقة، تماماً كما فعلت سلمى حين حولت فقدها إلى طاقة للحياة.
في مجال الإرشاد النفسي والتربوي، يجب النظر إلى الانهيار بعد الصدمة كفرصة للتعلّم لا كفشل.واذا شعر الفرد إلى المساعدة عليه عدم التردد والذهاب إلى الطبيب النفسي والأخصائي النفسي لتلقي الدعم من الجهه الصحيحه.
يستفيد الذين عاشو التجارب من فهم هذه المرحلة في دعم الآخرين ويكونو نموذج ناجح يساعد الآخرين أو العاملين على تطوير انفسهم في العديد من التجارب سواء كانت الصحية،الاجتماعية،ظروف العمل،الأسرية، وغيرها ومن خلال القدرة على تجاوز الصدمة تزداد لديهم القدرة على إدارة الضغوط بشكل أكبر، ومهارات التعامل مع الأزمات.
كما أن التوعية على إدارة الضغوط،ومهارات حل المشكلات،والذكاء الانفعالي لا بد من ان يبدأ في المدارس أو الجامعات، ومن خلال جلسات التوعية ودعم جماعي، وهذه الأجراءات تقلل من احتمالية تحوّل الصدمات إلى اضطرابات نفسية وجسدية مزمنة.
الانهيار بعد الصدمة ليس سقوطاً، بل بداية نهوض داخلي جديد.
قد تظن النفس في لحظة الألم أنها انتهت، لكنها في الحقيقة تبدأ رحلة وعي أعمق.
وهكذا، يُثبت الإنسان مرة بعد مرة أن الألم ليس النهاية، بل التعليم والخبرة والنضج يأتي في رحلة الوعي والنضج النفسي.



