تهاني روحي
ليست كل الكتب تُقرأ بحثًا عن قصة، ولا كل الروايات تُقاس بحبكة أو نهاية. بعض الكتب تُقرأ لأنها تفتح مسارًا داخليًا، وتدفع القارئ إلى التوقف، لا لملاحقة الأحداث، بل لمراجعة الذات. من هذا المنطلق قرأت (عرائس السماء)لا كرواية تقليدية، بل كرحلة روحانية في سلوك النفس نحو الله.
ما لفتني في هذا الكتاب أنه لا يقدّم صيغًا جاهزة، ولا يدّعي امتلاك أجوبة نهائية. بل يضع القارئ أمام جوهر السلوك الإنساني: أن يبدأ الإنسان بنفسه. فالبحث عن عيوب الذات، لا عيوب الآخرين، والسعي للتحرر منها، ومعرفة النفس باعتبارها أنفع ما يمكن للمرء أن يبلغه في رحلته، هي ركائز أساسية في هذا النص.
بحسب الكاتبةسمية صبحي سرور، نحن لا نسير في طريق واحد نحو الله، ولا نملك خرائط متشابهة. الرحلة فردية، متشعبة، تمرّ بالشك والبحث والتأمل واليقين، وتقوم على الفهم بالعمل والعبادة معًا، باعتبارهما مسارين متلازمين لا ينفصلان. إنها رحلة لا تطلب إجابات جاهزة، بل تطلب شجاعة السؤال، والقدرة على الرؤية بعيوننا نحن، لا بعيون الآخرين.
ما يضفي على هذه الرحلة بعدًا إنسانيًا عميقًا هو حضور الأب وغيابه في آنٍ واحد. ولأنني أعرف الكاتبة المصرية سمية سرور، فانأثر رحيل والدها يتبدّى بوضوح في هذا العمل. كان الأب رفيقها الأول في الاستكشاف، من يفتح لها أبواب المعرفة، ويمنحها أدوات التساؤل منذ الطفولة. وبرحيله، وجدت نفسها في مواجهة فراغٍ وانتماءٍ كانت تظنه ثابتًا، فإذا به يُختبر بالفقد. هنا تحولت الكتابة إلى ملاذ، وإلى محاولة لربط خيوط الرحلة التي تفرقت.
الكتاب لا يأخذنا في انتقال جغرافي بقدر ما يقودنا في عبور داخلي. من معابد ومقامات، إلى دروب المتصوفة وبدو سيناء، ومن أقصى شمال مصر إلى جنوبها، نكتشف أن الانتماء ليس مكانًا نصل إليه، بل حالة روحية ونفسية متحولة. وأننا، مهما اعتقدنا أننا رحالة بلا جذور، فإننا نعبر باستمرار بين مراحل تُعيد تشكيلنا.
من الأفكار التي توقفت عندها طويلًا في هذا الكتاب تلك العلاقة مع الصمت. الناس، كما تكشف التجربة، تهرب من الصمت، بينما الصمت هو المساحة الوحيدة التي يمكن أن نسمع فيها الحقيقة. إلى جانبه، كانت القراءة المتفحّصة زادًا دائمًا في الرحلة؛ فالكتب هنا ليست أوراقًا، بل مفاتيح، تفتح أبوابًا لم تطرقها الروح من قبل.
نشأت الكاتبة في عالم مشبع بالفن والقراءة، وبتشجيع من الأهل درست الفنون وبدأ يتفتح لها العالم الذي صاغه الأب بعناية: كتب، صور، مسارح ، زيارات للمعابد والمسلات، وموسيقى. لذلك لا يبدو الفن في هذا النص ترفًا، بل علمًا ورسالة وحياة. فالجهل هو العدو الأول للحلم، والموسيقى كما توحي الرحلة. وانارتقاءٌ للروح لا يقل شأنًا عن أي ممارسة معرفية أخرى.
في خلاصة هذا العمل، لا تدّعي عرائس السماء أنها تقود إلى نهاية واضحة، بل تذكّر بأن الخطوة الأولى في طريق السلوك هي تطهير القلب، وعدم الاكتفاء باتباع طرق الآباء، وأن زاد هذا الطريق هو الصبر. أما المعرفة، فهي مسار الباحث الذي يرى الحكمة في كل شيء، ويفهم مظاهر الوجود باعتبارها انعكاسًا لأسرار أعمق.
هذا كتاب لا يمنح القارئ إجابات نهائية، لكنه يمنحه شيئًا أكثر قيمةوهو الاستعداد للغوص في الذاكرة،والتحليق في فضاء الأسئلة،والبدء في رحلةٍ لا تُقاس بطولها، بل بصدق السعي فيها.




