
الكيان يترنّح.. ولكن السقوط ليس الآن
قراءة هادئة لعاصفة الشرق الأوسط
بقلم: المهندس ثائر عايش مقدادي
في خضم ما تشهده المنطقة من أحداث متسارعة، يتجه البعض نحو الاحتفال المفرط، فيما يغرق آخرون في الخوف والريبة. غير أن المشهد الحقيقي أعمق بكثير مما يبدو على السطح، إذ تتشابك فيه خيوط الجغرافيا السياسية مع المصالح الاقتصادية، ويتداخل فيه الفاعلون الكبار في لعبة لا يحكمها الانفعال، بل تُدار بعقول باردة وخطط طويلة الأمد.
يُعد مضيق هرمز الرئة الاقتصادية للعالم و أحد أخطر النقاط الاستراتيجية في العالم، إذ تمر عبره أكثر من 30% من صادرات الطاقة العالمية. تتحكم فيه الجغرافيا، وتحكمه مصالح القوى الكبرى. لا يمكن تجاهل أن السيطرة عليه تعني امتلاك ورقة ضغط دولية كبرى، وهو ما يفسر الإصرار الأمريكي الدائم على ضمان أمنه، والدور غير المباشر لإسرائيل في حمايته باعتبارها شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة.
منذ قيام الثورة الخمينية، شغلت إيران موقعًا حساسًا في الخريطة الإقليمية. لم يكن توسعها مجرد صدفة، بل جاء مدعومًا باستثمار مالي ضخم، وتخطيط أمني طويل، يهدف إلى ترسيخ نفوذها في عدة دول عربية. لقد تحوّلت إيران إلى "شبح استراتيجي” تستخدمه بعض الأطراف لترهيب الخليج العربي، وتبرير الوجود العسكري الأجنبي، وفتح باب الصفقات الأمنية والسياسية بلا سقف.
رغم الشعارات النارية التي ترفعها إيران ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، لم تتجاوز أفعالها الخطوط التي تُزعج تلك القوى مباشرة. معظم تحركاتها العسكرية ظلت ضمن المساحات العربية، حيث أُنهكت العراق وسوريا ولبنان واليمن، دون أن يمسّ ذلك النفوذ الأمريكي أو الإسرائيلي بشكل مباشر. وعلى العكس، ساهمت هذه التحركات في تكريس الانقسام الداخلي وتفكيك النسيج الاجتماعي في أكثر من بلد عربي.
يبدو التصعيد الأخير في المنطقة وكأنه يأتي في توقيت شديد الحساسية. يتزامن ذلك مع محاولات إعادة تشكيل خارطة النفوذ في البحر الأحمر، ومع ترتيبات لتهجير الفلسطينيين من غزة، وفتح الباب أمام تحالفات جديدة تُرسم بهدوء في الظل. اختيار التوقيت لم يكن عشوائيًا، بل ينسجم مع منطق إدارة الأزمات وليس حلّها، بهدف إعادة إنتاج الهيمنة من خلال خلق الفوضى المؤقتة.
في كل مواجهة مفتوحة، تكون الخسائر الأشد من نصيب العرب. تُدمّر المدن، وتُشرّد الشعوب، ويُستنزف الاقتصاد. أما إيران، فتحتفظ بدورها المتماسك في المشهد، وتستثمر نتائج الصراعات لصالح تعزيز خطابها السياسي والطائفي. أما الكيان الصهيوني، فهو يستفيد من الضربات لتضخيم مشهد "الخطر الوجودي”، تمهيدًا لمزيد من الدعم الدولي، وإطلاق يد الآلة العسكرية دون حرج.
لا شيء يُترك للصدفة في هذه المنطقة. ما يجري اليوم ليس حربًا عبثية، بل هو جزء من منظومة استراتيجية معقدة، تُدار فيها التضحيات البشرية والضربات المتبادلة بحسابات دقيقة. حتى التعتيم الإعلامي في إسرائيل، وظهور الخسائر على استحياء، يخدم هدفًا واحدًا: تهيئة الرأي العام لقبول خطوات أكثر عنفًا في المستقبل القريب.
رغم ضبابية المشهد وكثرة التناقضات، تظل هناك حقيقة راسخة لا تهتز: الكيان الصهيوني إلى زوال. ليس هذا من باب العاطفة أو الأماني، بل لأنه كيان طارئ نشأ على الظلم، ولا يمكن للباطل أن يستقر مهما طال الزمن. لكن هذا السقوط لن يكون فوضويًا، بل سيتم وفق توازنات دقيقة، حيث لن يُسمح بسقوط طرف دون إعادة ترتيب الخريطة لصالح طرف أقوى.
في خضم ما يجري، لا بد أن نمتلك الوعي الكافي لقراءة الحدث بعيدًا عن التهويل أو التهوين. لا العدو أضعف مما يبدو، ولا الحليف أقوى مما يروّج. المعركة طويلة، ومعقدة، ويجب أن نستعد لها برؤية استراتيجية، لا بردّات فعل مؤقتة.
إن تصعيدًا بهذا الحجم، وسط هذا الصمت الأمريكي المدروس، يؤكد أن ما نشهده ليس النهاية، بل بداية مرحلة جديدة من إعادة تشكيل الإقليم.
المهندس ثائر عايش مقدادي