
المشروع الصهيوني مقابل المشروع العربي
القلعة نيوز:
بقلم: المهندس سعيد المصري
قد يكون من المناسب، عند المقارنة بين المشروع الصهيوني والمشروع العربي، العودة إلى لحظة التحول الجيوسياسي الكبرى التي بدأت عام 1840، إذ شهد هذا العام بدايات أفول نجم العرب في نهايات الحقبة العثمانية ، مقابل صعود مذهل ومنهجي للمشروع اليهودي الصهيوني، برعاية قوى كولونيالية وامبريالية لعبت الدور المحوري في صياغة النظام الدولي الحديث.
إن القوى التي يتم وصفها من ماسونية وامبريالية كولونيالية، ليست سوى الامتداد الطبيعي لنفس القوى الاستعمارية التي هيمنت على مقدرات الشعوب منذ حرب الأفيون، وحتى سقوط بريطانيا العظمى من على عرش الإمبراطوريات وتوريث المهمة للولايات المتحدة الأمريكية. وعندما أُشير إلى عام 1840، فإنما أستحضر مرحلة فاصلة من التحولات، اتسمت بانهيار الإمبراطورية العثمانية، وصعود الولايات المتحدة لقيادة المشروع الإمبريالي التوسعي، الذي احتضن المشروع الصهيوني منذ بواكيره الأولى، بتحريض مباشر من الأنجلوساكسون الأوروبيين.
وقد تم هذا الاحتضان على أسسٍ مشابهة لتلك التي قامت عليها الحضارة الغربية في الأمريكتين، حيث انتزعت الأراضي الجديدة من أصحابها الأصليين، وأُقيمت المستوطنات الاستعمارية مكانها. من هنا، نشأ توافق تام بين المشروع الصهيوني والفكر الغربي الكولونيالي، باعتبار المشروع الصهيوني امتدادًا عضويًا للحضارة الغربية في نسختها الاستيطانية.
ولم يكن هذا التلاقي وليد الصدفة، بل نتيجة تراكمات عقائدية وتحالفات تاريخية، أبرزها ما جرى عام 1517 حين تمكن اليهود من كسب تعاطف مارتن لوثر مؤسس الحركة البروتستانتية، الذي آمن بأهمية قيام دولة إسرائيل باعتبارها تمهيدًا لعودة المسيح المنتظر وتحرير البشرية من الظلم. وقد أدى هذا التلاقح بين الفكر الديني البروتستانتي والفكر الصهيوني إلى نشوء ما يُعرف اليوم بـ”المسيحية الصهيونية”، التي يتبعها أكثر من 600 مليون إنجيلي حول العالم، يشكّلون اليوم الظهير الأكثر صلابة للمشروع الصهيوني.
هذا هو ما أعده اليهود لأنفسهم، منذ عام 1840 وحتى اليوم، بذكاء استراتيجي وتحالفات محسوبة بدقة. في المقابل، ارتضى العرب الخضوع للعثمانيين بدعوى الخلافة الإسلامية، ولم يحرّكوا ساكنًا أمام مشروع سايكس بيكو الاستعماري، رغم وضوح أهدافه في تمزيق المشرق العربي. واليوم، نجد إسرائيل وقد تحولت إلى "التلميذ النجيب” للغرب الاستعماري، تؤدي واجبها المرسوم لها من تحالف ما سمي باليهودية الصهيونية – والمسيحية الصهيونية ، بينما لا يملك العرب من أمرهم شيئًا، سوى التكيف والتعايش مع واقع مرير سيمتد لعقود، وربما قرون قادمة.
ويحضرني في هذا السياق ما ورد في مذكرات أدولف هتلر، الذي تبنّى في البداية فكرة دعم اليهود وحركتهم الصهيونية حتى عام 1925، بناءً على اتفاق يقضي بتسهيل هجرتهم من أوروبا إلى فلسطين. وقد اعتبر هتلر ذلك بادرة حسن نية منه، للتخلص منهم بالتهجير الطوعي. إلا أن خيبة أمله ظهرت حين شعر أن الحركة الصهيونية خدعته، حيث اكتشف أن هدفها الحقيقي لم يكن الهجرة الكاملة، بل إقامة كيان سياسي يستخدم كمنصة لنقل ما وصفهم بـ”المحتالين اليهود” (swindlers) من أوروبا إلى فلسطين، الأمر الذي ولّد لديه كراهية عميقة تجاههم، كما دوّن بنفسه في مذكراته.
ويكاد التاريخ يعيد نفسه؛ فقد التفّ نشطاء الصهيونية لاحقًا على تعاليم مارتن لوثر نفسه بعد وفاته عام 1546، وتحالفوا مع أتباعه، ولا يزال هذا التحالف قائمًا حتى اليوم، في شكل علاقة متينة بين اللوبيات الصهيونية ودوائر القرار الديني والسياسي في الغرب الإنجيلي.
إنها قصة مشروعين: مشروع استراتيجي طويل النفس، يتقن فن التحالف والتغلغل، ومشروع متروك للقدر، تائه بين الشعارات والانقسامات، يبحث عن ذاته في خرائط ما بعد سايكس بيكو، بينما الواقع لا يرحم.