
الأستاذ الدكتور أمجد الفاهوم
منذ اعتلى جلالة الملك عبد الله الثاني عرش المملكة، لم يتعامل مع منابر الأمم المتحدة على أنها مجرد ساحات للخطابة أو لتبادل المجاملات الدبلوماسية، بل حوّلها إلى أدوات فاعلة لإحداث تغيير حقيقي في المواقف والسياسات الدولية. ففي خطابه أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة أكد أن حل الدولتين هو الخيار الوحيد المنسجم مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وهو ليس مجرد مقترح سياسي بل ضمانة استراتيجية لحماية الاستقرار الإقليمي والأمن القومي الأردني. غير أن الأهمية لم تكن في الكلمات وحدها، بل في القدرة على تحويلها إلى ضغط سياسي عملي، إذ أشار جلالته بوضوح إلى أن العالم يراقب، وأن القوى الكبرى لا تستطيع الاستمرار في انحيازها المطلق إذا ما واجهت موقفًا عربيًا وإسلاميًا موحدًا يصعب تجاوزه.
هذا النهج تجلّى بأوضح صورة في الاجتماع الذي جمع جلالته مع قادة عرب وإسلاميين أمام الإدارة الأمريكية في لحظة حرجة، حيث بدا المشهد في ظاهره بروتوكوليًا لكنه كان في حقيقته ورقة ضغط أجبرت واشنطن على التراجع عن دعمها الضمني لمخطط ضم الضفة الغربية. لقد أثبتت تلك اللحظة أن الكلمة الموحدة ليست شعارًا عاطفيًا، بل أداة ردع سياسية قادرة على لجم حتى أقوى الحلفاء لإسرائيل متى ما شعروا بجدية الاصطفاف العربي والإسلامي. وهكذا فإن التجربة تقدم درسًا للعرب جميعًا بأن الفرقة تفتح الأبواب أمام المشاريع العدوانية، بينما الوحدة قادرة على إرباك الحسابات الدولية وتغيير اتجاهات القرار.
لقد كان الأردن، بقيادة الملك عبد الله الثاني، يدرك أن القضية الفلسطينية ليست شأنًا محليًا فحسب، بل مسألة وجودية ترتبط مباشرة بأمنه القومي، وأن أي اختلال في وضع فلسطين سينعكس على استقرار المنطقة بأسرها. لذلك جاءت دعوته إلى الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية باعتبارها مدخلاً للسلام العادل، ووسيلة لحماية الأردن من أي تداعيات تهدد استقراره وحدوده. وفي الوقت ذاته، أعاد جلالته التأكيد على أن الشرعية الدولية يجب أن تبقى رافعة استراتيجية لمواجهة الانحياز، وأن القرارات الأممية ليست أوراقًا مهملة بل مرجعية لا غنى عنها.
إلى جانب هذه القيادة السياسية الحكيمة، برز الدور المساند الذي تقوم به جلالة الملكة رانيا العبد الله، والتي استخدمت حضورها الدولي لتسليط الضوء على المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني وعلى قضايا إنسانية كبرى تتعلق بالنساء والأطفال والتعليم. فقد خاطبت العالم من على منابر الأمم المتحدة لتؤكد أن ما يحدث في غزة من قتل وتجويع واستهداف للمدنيين ليس قضية إغاثة عابرة، بل خرق صارخ للقانون الدولي يتطلب موقفًا حازمًا. وبفضل هذه المداخلات اكتسب الموقف الأردني بعدًا أخلاقيًا وإنسانيًا يعزز صدقيته أمام المجتمع الدولي، ويُظهر أن القضية ليست لعبة مصالح سياسية بل قضية عدالة وحقوق إنسان.
إن الحضور المتكامل للملك والملكة في المحافل الدولية يمنح الدبلوماسية الأردنية قوة مزدوجة؛ الأولى سياسية صلبة تعيد توجيه بوصلة القرار العالمي، والثانية إنسانية ناعمة تزرع القيم والمبادئ في قلب النقاش. ومن هنا يصبح الدور الأردني أكثر من مجرد دفاع عن قضية عادلة، بل مشروعًا استراتيجيًا لإعادة بناء الموقف العربي والإسلامي على أسس واقعية وفعّالة. فما تحقق من وقف لمسار الضم ليس حدثًا عابرًا، بل دليل على أن اللحظة العربية الموحدة قادرة على أن تنتج نتائج ملموسة إذا ما أُحسن استثمارها، وأن الأمم المتحدة يمكن أن تتحول إلى منصة لحماية الحقوق بدل أن تكون مسرحًا لتعطيلها.
إن الدرس الأعمق الذي يمكن استخلاصه هو أن الكلمة العربية والإسلامية إذا ما توحّدت تصبح سلاحًا سياسيًا حقيقيًا لا يقل أثرًا عن القوة العسكرية، بل يفوقها في قدرته على محاصرة النفوذ والهيمنة. وما فعله الملك عبد الله الثاني من استخدام اللحظات المفصلية في السياسة الدولية، مدعومًا بصوت الملكة رانيا الإنساني والأخلاقي، يؤكد أن الأردن يقود من موقع ريادي لا دفاعي، وأنه يكتب مع شركائه صفحة جديدة يمكن أن تتحول إلى نموذج دائم إذا التقط العرب إشاراته وأدركوا أن التآلف ليس لحظة عابرة بل استراتيجية وجود.