
القلعة نيوز:
في بدايات حزيران سنة
1967م، كنت فتى يافعا لم أكمل الثالثة عشرة من عمري بعد، على مقاعد الدراسة في
الصف الثاني الإعدادي في قرية "سالم" شرقي نابلس. كانت العطلة الصيفية
قد بدأت، فالتحقتُ بأهلي الذين كانوا يحصدون القمح في أراضٍ جبلية تقع على مرتفعات
مطلّة على وادي الفارعة وطمون وطوباس والأغوار وشرق الأردن. ولبُعد المسافة عن
القرية كنا ننام على بيدر القمح في موقع الحصيد، ونحتفظ بمستلزمات حياتنا الضرورية
في كهف كبير في الأرض نفسها.
كان "راديو
الترانزستور" لا يفارقنا نهارا أو ليلا، في عملنا أو في منامنا، نتابع فيه كل
ما تبثّه الإذاعة الأردنية وصوت العرب وإذاعة لندن بالعربية من أخبار وتعليقات حول
الحرب الوشيكة التي نترقّبها ونتوق إليها وننتظرها دون صبر. معنوياتنا تحلّق في
الفضاء، وثقتنا بالنصر ثابتة لا تتزعزع، فإذا خطب الزعيم جمال عبد الناصر امتدّت
رقابنا وآمالنا إلى عنان السماء، كان أحمد سعيد ينفث في نفوسنا فننتفخ بالهمة
والمعنوية، وأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش يشنّفون آذاننا بالأغاني الوطنية
الحماسية، فلا نكاد نشعر بشدة الحَرّ ونحن تحت أشعة الشمس اللاهبة، نجدّ في العمل،
ولا نحس بالتعب، فزهور الأمل تداعب الوجدان، وموعد الثأر قد حان، ونحن مع فلسطين
على موعد: جيش العروبة يا بطل الله معك.... أصبح عند الآن بندقية.... والله زمن يا
سلاحي.......
ثم كانت الحرب في الخامس
من حزيران، وتواردت الأخبار عن البطولات في الإذاعات العربية، واحتلال جبل المكبّر،
وتوالت بيانات إسقاط عشرات تلي عشرات من الطائرات المعادية.
كانت فرحتنا عارمة،
ونشوتنا بلا حدود، فإذا نقلنا مؤشر المذياع إلى إذاعة لندن، سمعنا كلاما مغايرا
يصف تراجع الجيوش العربية، وتدمير الطائرات المصرية، وتقدُّم قوات الأعداء في
الضفة والجولان وسيناء، كنا نضحك باستخفاف، ونقول: هؤلاء ماكرون أنجاس يريدون أن
يؤثروا في روحنا المعنوية ويقتلوا أفراحنا بالنصر الحتمي القادم.
"وانتبهنا
بعدما زال الرحيق..... وأفقنا ليتنا لا نفيق"!!!
أفقنا غلى إذاعة الأعداء
تصرع رؤوسنا وهي تقول: صوت إسرائيل من أورشليم القدس!!!
رحماك يا رب! ما الذي
يجري؟! سقط المِنجل من يد أبي وهوى بجسده المنهك متهالكا على غمر القمح المحصود.
وعاد إلينا الوعي، فأعدنا نظرنا فيما حولنا لفهم ما جرى لنا.
كانت الطائرات المعادية
تلاحق الدبابات المنسحبة في طريق نابلس ــ الفارعة ــ الأغوار بقنابل النابالم دون
رحمة، وعندما تلقي حمولتها تلوي أجنحتها جذلة وتعود إلى مواقعها. في إحدى الهجمات
صعدت طائرتان من غور الوادي السحيق واتجهتا نحو أعالي الجبل حيث نحن، كنا ننظر إليهما
من علٍ وهما تتجهان نحونا تكادان تلامسان الأرض، حاولنا الهرب إلى الكهف القريب،
لكنّ الموت الزؤام الهاجم كان أسرع. صرخ أخي الصغير من شدة الهلع، فألقتْه أختي
على الأرض، وغطّته بجسمها كي تحميه. وخلال ثوانٍ كانت الطائرتان قد غادرتا بعيدا،
لكنّ صوتهما اللاحق بهما كان يفتك بالعقل، ويصمّ الآذان.
بتنا تلك الليلة محزونين
مصدومين نصارع الخوف والقلق وخيبة الأمل. وبين تباريح الجوى وأفاويق الكرى كنا
نسمع أصوات الرجال المقهورين المنسحبين مشيا على الأقدام يغالبون الهمّ والتعب
يريدون أن يعبروا النهر إلى الشرق ليلا. سمعت أحدهم يصرخ: "ولْكُم يا رجال
ذبحتونا خلّونا نتريّح شويّ" فردّ أحدهم مقهورا:" لازم نوصل قبل
الضوّ".
وفي ليلة تالية مرّ بنا
أحد الجنود مستنزَفا من تعب المشي وشدة الجوع والعطش وهول القهر، كان يحمل على
كتفيه بندقيتين ثقيلتين مع عتادهما وكل لوازمهما. استضفناه وقمنا بواجبه، واستمعنا
إليه، وبكينا معه، وسألناه: لماذا يحمل لوازم جنديين اثنين؟! فقال بصوت مخنوق
والدموع تغلبه: إنه رفيقي، استشهد، فحملت سلاحه ومتاعه. عرض عليه أبي أن يترك
عندنا بندقية رفيقه وعتادها، فرفض بحزم وقال: هيهات، إنها أمانة ثقيلة مرعية يفرض
عليّ شرفي العسكري أن أسلمها إلى وحدتي. عانقناه وودعناه بالدموع والدعوات.
ونسلّ أنفسنا غصبا من
أحزان هذه الذكريات لنقول:
توالت علينا بعد حزيران
ذاك المشؤوم حزيرانات وحزيرانات، لم تمحُ ألم الذكريات، ولم تطفئ في صدورنا نارا
تتوقّد للثأر.
فلسطين أرض العروبة
ومهوى أفئدة المسلمين، لا بدّ من الإعداد العربي الإسلامي الجادّ العلمي السياسي
العسكري الصناعي لاستعادتها، ولا بدّ من استعادة الوعي بأن أعداءنا لا أمان لهم،
ولا سلام يدوم معهم، ولا ثقة بمعظم النظام الغربي الذي يدعمهم، وصراعنا وجوديّ
أبديّ: نكون أو لا نكون، ولا بدّ أن نكون. فهل نحن فاعلون؟؟!!