
السلك المشدود، ما يبدأ فكرة ينتهي واقعا ...
القلعة نيوز ـ
تقول هيلاري كلينتون في مذكراتها: "إن السياسة الأمريكية الخارجية هي سلك مشدود مرتفع في ساحة دولية صاخبة"، بين السعي لتحقيق الأنسب وبين التغيرات التي تطرأ على الساحة الدولية، بين تلك النقطة التي استطاعت فيها إدارة ترومان ما بعد الحرب العالمية الثانية خلق عالم جديد وتوازنات جديدة وفرض تحالفات جديدة، وتغيير إيقاع العالم.
كما يقول مارشال وزير الخارجية ووزير الدفاع في عهد ترومان: هذه التحالفات القائمة على تحقيق مصالح أمريكا عبر التحالفات والتجارة وشراء منتجاتنا، وهذا ما يحقق مصالحها ويجعل أمريكا قادرة على قيادة العالم. لا تزال هذه التحالفات هي القوى الأساسية في جعل أمريكا قادرة على قيادة العالم، كيف استطاعت السياسة الأمريكية إقناع الصديق والعدو على اللعب وفق نفس القواعد وفي نفس الساحة التي تحقق مصالحها هي أولاً؟
لكن مهلاً، هذا لم يكن ليتحقق لولا أن أمريكا استطاعت أن تحقق مصالح لهؤلاء. ما الذي دفع مصر إلى أن تتخلى عن الاتحاد السوفياتي واللجوء إلى أمريكا؟ ما الذي دفع الملك فيصل إلى توقيع اتفاقية بيع وشراء النفط بالدولار في فترة تاريخية من تاريخ الأمة، وكانت الأمة على قلب رجل واحد في مناصبة الكيان ومن خلفه العداء؟ بل إن الملك فيصل نفسه كان له موقف واضح من هذا الكيان، وهذه الاتفاقية تساهم ليومنا هذا في منح الدولار قيمة عالمية في عمليات الشراء والبيع. وما الذي دفع العالم، وليس العرب وحدهم، إلى الخضوع لهذه الإدارة؟ فما قامت به أمريكا مع أوروبا هو ضمان خضوعها بعد الحرب وما زالت خاضعة لهيمنة الولايات المتحدة.
اتفق العرب في مرحلة ما على العداء للولايات المتحدة لموقفها من هذا الكيان المارق، ودعمها المطلق له في كل صراعاته، وهذا ما زال واضحاً إلى يومنا هذا. بل كان للعرب موقف قوي بقيادة الجزائر والسعودية في خفض إنتاج النفط خمسة بالمائة دورياً، وإدخال العالم وأمريكا في أزمة بسبب المصالح العربية.
ولكن نجحت السياسة الأمريكية في تحييد الموقف العربي وتفتيته، بل حتى في تحييد موقف الكثير من الدول مثل اليابان والهند والصين. نعم، بقيت بعض الدول صامدة ولكن المواقف تتغير، حتى تركيا التي نعرف لم تستطع الصمود في ظل حكم أردوغان الذي يتصلب بمواقفه مع قضايا الأمة أحياناً، ولكن في الحقيقة هذه المواقف لم تستطع الصمود لاحقاً.
نعم، لقد سعى تشرشل بكل قوته لجر الولايات المتحدة، هذا العملاق النائم، للحرب العالمية. هل كان يدرك أن أوروبا لن تستطيع الصمود في وجه ألمانيا بدون أمريكا؟ هل كان يدرك قوة هذا العملاق والذي ستخضع له بريطانيا بعد ذلك، وأن هذا الخضوع لبريطانيا هو أفضل ألف مرة من الوقوع تحت مخالب هتلر ربما؟ وكيف لا وأمه أمريكية وقد عاش فترة من حياته هناك، وهو من هو في الدهاء والسياسة ويدرك تماماً مصالح بريطانيا ومتى يرفع رأسه ومتى يخفضه.
ما تقوم به السياسة الخارجية في الولايات المتحدة عبر وزارة الخارجية بعدد يصل إلى حوالي سبعين ألف موظف، ووزارة الدفاع بعدد يصل إلى ثلاثة ملايين موظف حسب ما جاء في مذكرات هيلاري، هو في الحقيقة السيطرة على العالم. لقد صدق الصحفي الأمريكي مايلز كوبلاند عندما قال: "إن الولايات المتحدة لن يحدث فيها انقلاب لأنه لا يوجد فيها سفارة أمريكية".
ولك أن تتخيل أن المختصين الدبلوماسيين في وزارة الخارجية يدرسون ويبحثون ويناقشون ويتدخلون ويختصون بسياسة كل بلد في العالم. كما أنه يوجد سبعمائة وخمسون قاعدة للولايات المتحدة خارج أمريكا، هذه طبعاً تهدف إلى نشر المحبة والسلام في هذا العالم.
ومع ذلك، هذا النظام العالمي الذي تقوده أمريكا استطاع توظيف وصناعة وخلق ولاءات وانتماءات في كل بقعة في هذه الأرض. وهناك معجبون ومؤيدون ومناصرون له، ويعتمد سياسة العصا والجزرة بشكل واضح وعلني. ولذلك عندما تتعارض مصالح أمريكا مع مصالح الدول الأخرى كما حدث في روسيا والصين والعالم العربي والإسلامي، ما الذي يحدث؟
باعتقادي المواجهة حتمية لأن المصالح تتقاطع وتتعارض. وما تنادي به أمريكا في الصين من احترام لحقوق الإنسان وحريته، تغض الطرف عنه في فلسطين والعراق وليبيا وأفغانستان وأمريكا الجنوبية وحتى في بلادها نفسها.
ولذلك هذه الازدواجية تجلب معها مشاكلها، وتخشى السياسة الخارجية الأمريكية من الصين تحديداً، ولكن الموقف الأخير من الحرب في غزة كشف السياسة الأمريكية على حقيقتها عبر العالم شرقَه وغربه.
بل إن هناك أصواتاً تخرج من قلب الولايات المتحدة كنعوم تشومسكي وهاورد زين وكريس هيدجز وغيرهم الكثيرون، تعارض هذه السياسة القائمة على الظلم والقوة والمصالح وفرض واقع على العالم تقوده الأحادية الأمريكية.
وما يبدأ فكرة ينتهي واقعاً.
إبراهيم أبو حويله.