
أحمد عبدالباسط الرجوب
في مشهد يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، لكن بفاعلين جدد وقواعد مواجهة متغيرة، تتجه أحوال العالم نحو مرحلة من "الفوضى المنظمة"، حيث لم تعد القوة العسكرية وحدها هي التي تحدد النتائج، بل الاقتصاد والدبلوماسية الخفية وحروب الوكالة. غزة أصبحت المحرك المركزي الذي يعيد تشكيل تحالفات الشرق الأوسط ويختبر صدقية النظام العالمي.
العناوين الرئيسية لاستشراف المآلات:
(1) أوكرانيا: الحرب المنسية والصراع الأكبر
العنوان: هدية بوتين غير المتوقعة وكابوس الغرب الاستراتيجي
بينما انشغل العالم بحرب غزة، وجد الكرملين فرصة ذهبية لتحقيق مكاسب استراتيجية في أوكرانيا. فقد نجحت الأزمة الجديدة في تشتيت الانتباه العالمي وإرهاق موارد الغرب، وكشفت ازدواجية معاييره، مما منح روسيا ميزة دعائية وسياسية مهمة.
مع تحول جزء كبير من الدعم العسكري والدبلوماسي الغربي نحو الشرق الأوسط، أصبحت الموارد المخصصة لأوكرانيا مهددة بالنضوب. يُتوقع أن يستغل الرئيس بوتين هذا الوضع لشن هجوم حاسم في أوكرانيا، سعياً لتحقيق نصر سريع يمكنه الاستفادة منه سياسياً.
هكذا أصبح مصير أوكرانيا مرتبطاً بشكل مفاجئ بتطورات الحرب في غزة، محوّلاً جبهة القتال هناك إلى مسرح ثانوي في صراع عالمي أوسع.
(2) على صعيد التحالفات الإقليمية:
العنوان: "من التنافس إلى التكامل: هل تنجح الرياض في قيادة محور مقاومة اقتصادي وسياسي جديد؟"
التفاصيل: الاتفاق السعودي-الباكستاني ليس مجرد صفقة أسلحة. إنه نموذج لاستراتيجية سعودية جديدة تقوم على بناء تحالفات أمنية واقتصادية متعددة المحاور بعيدًا عن الهيمنة الغربية التقليدية. قد يكون هذا نواة لمحور "الجنوب العالمي" الذي يجمع دولاً إسلامية وكبرى مثل الصين وروسيا والهند، ليس بالضرورة للمواجهة العسكرية، بل لخلق توازن قوى جديد يمنحها نفوذًا في المفاوضات المستقبلية.
(3) على صعيد الملف النووي والإيراني:
العنوان: "لعبة النار: صفيح إيران - الكيان الصهيوني الساخن ينتظر شرارة.. والغضب الأميركي من نتنياهو قد يكون المفتاح"
التفاصيل: التصعيد المباشر بين الكيان الصهيوني وإيران لا يزال محتملاً، لكن الطرفين يتقدمان بحذر شديد على حافة الهاوية. أي ضربة صهيونية للمنشآت النووية الإيرانية ستكون نقطة اللاعودة وستشعل حربًا إقليمية شاملة. العامل الحاسم قد يكون الموقف الأمريكي؛ فالإدارة الأمريكية قد ترفض تغطية مثل هذه المغامرة، مما قد يثني نتنياهو أو يدفعه لها كي يظهر القوة ويحافظ على حكمه.
(4) على صعيد الجبهة الشمالية (لبنان وحزب الله):
العنوان: "حرب الأعصاب على الحدود: لماذا يتردد حزب الله وإسرائيل في الدخول في "حرب الكل في الكل"؟"
التفاصيل: المواجهة الشاملة بين الجانبين هي السيناريو الأكثر تدميراً ولكنه الأقل احتمالاً في المدى القريب. كلا الطرفين يدرك ثمنها الباهظ. بدلاً من ذلك، ستستمر "حرب الإطفاء" المحدودة: ضربات صهيونية استباقية ضد قادة الحزب، وردود حزب الله المحسوبة لرفع الثمن دون تجاوز نقطة اللاعودة.
(5) على صعيد غزة ومستقبل القضية الفلسطينية:
العنوان: "ما بعد الركام: مشروع محو الهوية في غزة يواجه مقاومة التمسك بالأرض.. ومخططات التهجير تنتظر "الصفقة السياسية" القسرية"
التفاصيل: الهدف الصهيوني المعلن وغير المعلن هو جعل الحياة في غزة مستحيلة لدفع سكانها للهجرة "الطوعية"، تمهيداً لـ"تطهير القطاع" وتفريغه من هويته الفلسطينية. المقاومة الفلسطينية والمجتمع الدولي سيعملان على إفشال هذا المخطط. المعركة القادمة ستكون حول إعادة الإعمار والسلطة التي ستسيرها: هل ستكون سلطة فلسطينية موحدة مدعومة دولياً، أم إدارة أمنية محلية تابعة للكيان الصهيوني؟ هذا هو جوهر الصراع القادم.
(6) على صعيد اليمن والحوثيين:
العنوان: "الحلقة الأضعف: لماذا قد تكون المواجهة المباشرة بين دولة الكيانا والحوثيين هي الخيار الأسهل لنتنياهو؟"
التفاصيل: الحوثيون يمثلون تهديداً استراتيجياً لدولة الاحتلال بتحديهم للملاحة الدولية وامتلاكهم قدرات صاروخية وبحرية متطورة. دولة الكيان تبحث عن سيناريوهات للتعامل مع هذا التهديد، وأبسطها (من ناحية الدعاية) هو ضربة عسكرية محدودة ومباشرة ضد منشآتهم، ربما بالتعاون مع قوى إقليمية، لتثبيطهم وإظهار "قوة الردع" الصهيونية دون الدخول في مستنقع بري.
(7) على صعيد سوريا والجبهة الشرقية:
العنوان: "الملعب المفتوح: توغلات دولة الاحتلال في سوريا ستستمر تحت ذريعة "مكافحة إيران".. واتفاق الحدود مجرد ورقة تفاوضية"
التفاصيل: دولة الكيان الصهيوني لن تتوقف عن ضرباتها في سوريا، التي أصبحت "منطقة منزوعة السيادة" بالنسبة لها. الحديث عن اتفاق الحدود السوري-الإسرائيلي هو جزء من لعبة سياسية أكبر، قد تهدف إلى ممارسة ضغط على دمشق لفصلها عن محور المقاومة، أو هو مجرد مناورة إعلامية. الضربات ستستمر طالما بقيت إيران وحلفاؤها هناك.
(8) على الصعيد الرمزي والديني:
العنوان: "الاستعانة بالأسطورة: زيارة بومبيو واليمين الصهيوني المتطرف تستحضر "إسرائيل التوراتية" لتبرير التوسع المستقبلي"
التفاصيل: الزيارة ليست طقساً دينياً عادياً. إنها إشارة خطيرة إلى أن المشروع الصهيوني يتحول من مشروع قومي-علماني إلى مشروع ديني-استيطاني توسعي. هذا الخطاب يقدم تبريراً أيديولوجياً ودينياً ليس فقط للاستيطان في الضفة الغربية، بل ربما للتطلع نحو الأردن وسيناء في المستقبل، مما يهدد بزعزعة استقرار كل جيران إسرائيل.
الخلاصة: لحظة الحقيقة لنظام عالمي يحتضر
العالم يتجه نحو "حرب عالمية على أجزاء". لن تكون موحدة كسابقاتها، بل سلسلة من الصراعات الإقليمية المترابطة (أوكرانيا، الشرق الأوسط، تايوان، إفريقيا) حيث تتصارع القوى العظمى بالوكالة إنها أعراض لمرض أكبر: انهيار النظام العالمي أحادي القطبية الذي قادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة..
غزة هي البؤرة التي ستحدد شكل الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط لعقود قادمة، بين مشروع للتطبيع والتجزئة تحت الهيمنة الصهيونية، ومشروع مقاومة يسعى لإقامة قطبية جديدة. الأيام القادمة تحمل مفاجآت، والشرق الأوسط على موعد مع إعادة رسم خريطته ليس بالحبر، بل بالنار والدم.
القوى الصاعدة (روسيا، الصين، إيران) والقوى الإقليمية (تركيا، السعودية ، مصر، إسرائيل) تتحدى هذا النظام وتعيد ترتيب التحالفات وفق مصالحها الضيقة. في هذا الفراغ، تنشأ "الفوضى المنظمة"، حيث تصبح القوة هي القانون والحسابات الإستراتيجية الباردة تتغلب على القيم والمبادئ.
الأيام القادمة ستحدد ما إذا كان هذا العالم الجديد سيكون أكثر استقراراً أم أكثر عنفاً، وما إذا كان الصراع سيبقى "مُداراً" على الحافة، أم أن شرارة صغيرة—اغتيال في احد العواصم العربية، خطأ حسابي في لبنان، ضربة نووية تكتيكية في أوكرانيا—ستدفع بالعالم إلى هاوية حرب لا يعود منها أحد منتصراً.
بعتذر عن الاطالة لان الموضوع فيه الكثير من الترابط بين ثنايا النص