
صفوت زيد الطورة
تشير المرحلة الراهنة إلى مفصل جديد في التاريخ العربي، لا سيما بعد أن وضعت قمة شرم الشيخ أوزارها وسط ترقب إقليمي ودولي حاد لما سيؤول إليه المشهد الفلسطيني بعد حرب غزة. لم تكن القمة مجرد لقاء دبلوماسي يعلن نهاية القتال، بل محطة أعادت رسم الحدود السياسية للوعي العربي نفسه، إذ أفرزت خطابا جديدا يراوح بين التهدئة المشروطة والبحث عن معادلة تحفظ ماء الوجوه في زمن تتقاذفه موازين القوى وفق تقرير نشرته وكالة رويترز بتاريخ 9 أكتوبر 2025، شمل الاتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وفتح المعابر، وهو ما يمهّد لمرحلة جديدة من التفاوض والضغط الدولي، ويشير إلى أن المشهد بعد الحرب لن يكون كما قبله.
ذلك أن ما بعد الحرب لا يمكن قراءته بوصفه نهاية لصراع طال، بل بداية لزمن تتداخل فيه رهبة الانكسار مع إغراء التسوية، فالمشهد اليوم يختبر مدى قدرة الأطراف على ترجمة توقيع الوثائق إلى التزام واقعي، ومدى صدق النوايا في تحويل الهدنة إلى سلام لا يفرغ الحق من جوهره، فالمعادلة ليست بين المنتصر والمنكسر، بل بين من يستطيع الإمساك بخيط الشرعية ومن يلقيه طائعا في بحر التنازلات.
كما أشارت صحيفة عربي21 في تحليلها بتاريخ 13 أكتوبر 2025، فإن قمة شرم الشيخ تشكل بداية محتملة لتحول في الوعي العربي تجاه القضية الفلسطينية، مع ضرورة ترجمة الاتفاقات إلى أفعال ملموسة لضمان استدامة الهدنة وتحقيق الاستقرار.
وربما الأهم أن هذه القمة كشفت عن تحول خفي في بنية الوعي العربي تجاه القضية الفلسطينية، فلم يعد الفلسطيني في موقع الضحية فحسب، بل بات فاعلا يطالب بتجديد خطابه وبناء مؤسساته واستثمار صموده في مشروع وطني متماسك.
غير أن ذلك يتطلب شجاعة فكرية وإرادة سياسية تحول الوعي الجمعي إلى فعل واقعي، وتعيد تعريف المقاومة لا بوصفها نقيضا للسياسة، بل شرطا أخلاقيا لها.
وقد أكدت حماس، وفق تقرير رويترز بتاريخ 8 أكتوبر 2025، استعدادها للتوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب في غزة بشروط واضحة، وهو ما يعكس الجدية المطلوبة لضمان أن تترجم التسوية لاحقا إلى واقع ملموس بعد انتهاء القتال، فالقوة التي ولدت من رحم النار يجب ألا تذوب في صفقات آنية، بل أن تتحول إلى رافعة لبناء نظام سياسي فلسطيني جديد يعبر عن روح الناس لا عن ظل السلطة.
وفي هذا السياق، يتجلى التحدي الأكبر في منع تحويل غزة إلى "ملفّ إنساني" تدار شؤونه بالأرقام والوعود، فالإعمار بلا كرامة لا يسمى سلاما، والتهدئة بلا عدالة ليست سوى هدنة مع الزمن، فالمطلوب اليوم أن تصاغ معادلة جديدة يكون الإنسان الفلسطيني مركزها، وأن يستعاد البعد الثقافي للهوية كجزء من المعركة السياسية نفسها، فالثقافة هنا ليست ترفا، بل هي ذاكرة الوجود ومعيار استعادة الذات في وجه محاولات التذويب، ومن رحم ذلك إن المسرح والفن والأدب والذاكرة الشعبية هي جبهة لا تقل أهمية عن الدبلوماسية والميادين، لأنها تحفظ المعنى حين يضيع الشكل.
ولعل أخطر ما تحمله المرحلة المقبلة هو اختبار الإرادة: هل يترجم الكلام إلى أفعال؟ وهل تفتح المعابر بصدق؟ وهل يرفع الحصار فعلا لا لفظا؟ وهل يتحول التعاطف الدولي إلى التزام قانوني وأخلاقي؟ إن هذه الأسئلة هي التي ستحدد إن كانت قمة شرم الشيخ خطوة نحو سلام متوازن أم استراحة في طريق أطول من الحرب نفسها، فالمشهد الحالي يشي بسلام مشوب بالقلق، وبأمل يتنفس بصعوبة تحت ثقل الحسابات.
وإني أرى أن ما بعد الحرب ليس زمن الانتصار ولا زمن الهزيمة، بل زمن الكشف، فمن يملك رؤية واضحة يستطيع أن يصوغ وجوده من جديد، ومن يتوه في تفاصيل اللحظة سيجد نفسه يعيد الدوران في الحلقة ذاتها، وعليه إن ما ينتظر من الفلسطينيين والعرب الآن هو أن يجعلوا من هذا الرماد منبرا لا شاهدا، وأن يبنوا على صلابة الأرض لا على هشاشة الخطابات، فالسلم الحقيقي لا يكتب بالحبر وحده، بل يصاغ بوعي يمسك بالحق كما يمسك الجذر بالماء، ويمضي إلى الغد بصلابة من عرف أن العدالة ليست أمنية بل قدر ينتزع.