
ما بعد الحدث — الفعل والانفعال والفاعلية
القلعة نيوز ـ
يقع الاحتلال بأعداد قليلة من الجنود، ومن الممكن دفعه بتضحيات كبيرة نعم، ولكنها تعد نسبياً قليلة مقارنة بالواقع الذي يفرضه المحتل بعد الاحتلال. والتضحية التي يجب تقديمها بعد ذلك للخلاص منه تكبر وتعظم وتطال البشر والحجر والأرض. فلو توحدت القوى الفلسطينية وحدها وصمدت في أرض المعركة، ولم تنصاع للدعوات الداخلية والخارجية في بداية المشروع الاستعماري، وصمدت في أرضها كما فعل أهل غزة اليوم، لكانت الفاتورة من الدماء والأرض والأموال أقل بكثير لصاحب الأرض، وأعظم بكثير للمحتل.
العدو اليوم قد وطن نفسه ونشر قواعده وثبّت وبنى وأعدّ وجهّز جنوده لإدامة هذا الاحتلال لأطول فترة ممكنة، وستصبح فاتورة التخلص منه باهظة في الأرض والمال والإنسان كما نرى. ولكن كل صبر عليه هو في الحقيقة تعظيم لخطره وزيادة لتمكينه على هذه الأرض. كل باحث في الأديان والإنسانيات والتاريخ وعلم الاجتماع يدرك أن التضحية هي وسيلة النهوض بأي أمة، من تلك المقدمة — المقدمة الثابتة والصفحة المضيئة في التاريخ لإبن خلدون وإلى يومنا هذا. منذ تلك اللحظة التي قرر فيها الرومان تشكيل جيش وتدريبه وصرفوا الأموال والعدة والعتاد في تجهيزه، حتى يكون وسيلة حماية لهذه الحضارة، ثم بعد ذلك يصبح نواة احتلال واستعباد للغير. ولن يقوم الجيش إلا إذا ضحت فئة من هذه الأمة بالأموال والأنفس في سبيل هذا الهدف.
معركة الوعي كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي، يجب أن ندرك أن كل تضحية هنا في هذه المعركة هي تضحية في مكانها. نعم هي ألم بشري وفقد لحبيب أو خسارة في وطن، ولكنها في سبيل الله وفي سبيل تحرير هذا الوطن لأهله من هذا المغتصب. هي معركة وعي يريد فيها العدو خلق واقع تصبح فيه الحرية شبه مستحيلة وذات ثمن باهظ. هي معركة وعي يريد فيها العدو أن يخلق في اللاوعي للذي وقع عليه الاحتلال أن لا سبيل للتخلص من هذا الاحتلال.
لقد واجه العالم الإسلامي ما بعد الاستعمار معضلة الوعي واسترداد الوعي، والفوضى والصدمة من عالم الأشياء والأفكار. مالك وقف هناك مفكراً ومحللاً وباحثاً وحاثاً لهذه الأمة حتى تنهض من كبوتها. لماذا هناك من الأشخاص من يحاول أن ينهض بالأمة؟ لماذا يتعب نفسه في محاولة الفهم ويسعى مفكراً وقارئاً وباحثاً؟ يبدو أن أي أمة حتى تنهض يجب أن يكون البعض للكل والمعظم للكل، والتضحية من الفرد للجماعة، والتضحية من الجماعة في سبيل الجماعة، وإلا لن تكون للجماعة وسيلة للنهوض والتطور.
هي معركة وعي يدفع فيها الشعب الذي وقع عليه الاحتلال بكل قوة وقدرة وتضحية في سبيل حريته وفي سبيل التخلص من هذا الواقع الأليم. نعم هنا يختلف الوضع مع هذا الاحتلال، لأن هناك قوى عالمية تريد هذا الاحتلال وتسعى بكل السبل لبقائه وهي مستفيدة منه، وتريده لأسباب سياسية واستراتيجية مختلفة. ولست مع أن الكيان هو الذي يسخر هذه القوى، ولكني أجد نفسي منسجماً مع النتيجة التي وصل إليها الباحث عبد الوهاب المسيري بأن الغرب هو من يوظف هذا الكيان لمصالحه، ولذلك هو مستعد للدفاع عنه بكل السبل المادية والعسكرية والمعنوية.
نحن إذاً الآن نعيش في حالة فوضى ما بعد الاستعمار، وهذه الفوضى يريدها الغرب ويسعى لها وهي هدف بحد ذاتها، لأن الخروج منها أو التفكير فيها أو البحث في السبل المؤدية للخروج منها وتحديدها وتحديد أسبابها، كل ذلك في الحقيقة يعتبر محرماً بالنسبة للقوى الغربية. وتسعى هذه القوى بكل السبل لإيقاع الفرقة والابتعاد عن الفاعلية والانخراط فيما لا فائدة منه، وتخلق مشكلات ومعضلات وتحديات هنا وهناك في سبيل ذلك. ولا أستبعد أن يكون دور بعض المنظمات الدولية منخرطاً في هذا التوجه بعلم منه أو بدون علم؛ بحيث ننخرط في قضايا حقوق الطفل والمرأة والميم والسين والصاد. وكل هذه في الحقيقة ليست مشكلة في العالم الإسلامي ولا تشكل ظاهرة ولا تحتاج كل هذا الجهد، ولكنه برأيي جزء من خلق فوضى متعمد يهدف إلى إبعادك عن الفهم الحقيقي للمشكلة التي خلقتها الدول الغربية في هذا الجزء من العالم وترعاها وتساهم في وجودها.
ولا تريد السعي في حلها مع أن الحل معروف وممكن، ولكنه جزء من الخطة الممنهجة التي تتعامل معنا فيها المراكز البحثية في العالم الغربي مثل رند وغيرها. وما قام به هنري كسنجر وأمثاله يصب في الحقيقة في هذا الهدف، ولذلك أجد أن هذا الباحث وأمثاله هم في الحقيقة عرابي الشيطنة لهذه الجماعة وسبب من أسباب انحرافها، بدل أن تسعى لتصويب حركتها في الحياة.
فنحن نعيش فوضى وحالة من الصدمة في عالم الأفكار والأشياء، والصدمة هنا هي في الحقيقة في فقد الفاعلية والابتعاد عن الانخراط في الفعل بدل التفكير والتحليل للوصول إلى رد الفعل المناسب في التعامل مع الحدث.
وتكديس هذه الأسلحة التي أنفقت عليها الأمة مئات المليارات لم تساهم في خلق الفاعلية في الأمة، ولا في الخروج من حالة الصدمة التي نعيشها، ولا السعي للكف عن تكديس الأشياء، والتي اتضح أن تكديسها هو بلا طائل، بل يخدم هدف الغرب في تمويل مشاريعه وتطوير أسلحته. ونحن من يمول هذه المشاريع بشراء وتكديس كل هذه الأشياء، والتي يعتبر الكثير منها مجرد أشياء بلا فائدة حقيقية للأمة.
إن الصدمة التي خلقها الطوفان ساهمت في أن يفكر كل واحدٍ منا بما يقوم به وبالطريقة التي يجب عليه أن يتفاعل بها مع الأحداث، وجعلته يسعى لأن يفهم، وأدرك ولو بشكل غير تفصيلي جزءاً كبيراً مما تعانيه الأمة من أمراض، ويحاول بكل السبل أن يفهم هذه النقاط المتناثرة ويضع الخط المناسب الذي يجمع بينها. وأدرك أن التفكير السليم والسعي الدؤوب مع قليل من الإمكانيات من الممكن أن يصنع ما يعتبر مستحيلاً.
وأن المستحيل لم يعد مستحيلاً، وأدرك أن الغرب والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من الممكن أن يتم إلحاق الضرر به والتسبب له بالخسارة، ومن الممكن بعد ذلك هزيمته وتقديم مصالح الأمة وأولوياتها.
وأن كل مواطن يستطيع التأثير بشكل بسيط نعم، ولكن لأن هذه الأمة ممتدة فهذا التأثير يمكن أن يحقق أهدافاً ولو بعد حين.
إبراهيم أبو حويله