
القلعة نيوز:
د محمد عبد الحميد الرمامنه
العنف في مجتمعنا لم يعد حدثًا استثنائيًا يثير الدهشة ، بل أصبح ظاهرة تتنقّل من مكان إلى آخر، كعدوى نفسية واجتماعية تضرب القيم قبل أن تؤذي الجسد . من أروقة الجامعات إلى قبة البرلمان، يتكرّر المشهد ذاته: صراخ بدل الحوار، ويد ترتفع بدل العقل الذي يُفترض أن يقيس الأمور بميزان الوعي والمسؤولية.
في الجامعات، يُفترض أن تُبنى الشخصية المتزنة ، القادرة على الاختلاف بتهذيب والمناقشة بعقلانية. لكن حين تتحول ساحات العلم إلى ميادين للخصومة والاصطفاف، فإننا نغرس في وعي الشباب أول بذرة للعنف السياسي القادم. فالمشاجرة الجامعية ليست مجرد خلاف طلابي، بل تدريب مبكر على رفض الآخر، وعلى تحويل الفكرة إلى خصومة والاختلاف إلى خلاف ، هذه السلوكيات حين تُترك دون علاج تربوي رادع ، تتحول لاحقًا إلى ممارسات عامة في الحياة الاجتماعية والسياسية.
أما حين نرى بعض الممارسات تحت قبة البرلمان تشبه ما يحدث في قاعات المحاضرات حين يختنق النقاش، فإننا أمام دائرة مغلقة من تكرار النموذج ذاته، حيث يُستبدل الفكر بالصوت العالي، والمنطق بردّ الفعل. عندها يصبح السؤال مشروعًا: هل المشكلة في الأفراد أم في البنية الثقافية التي لم تنجح في تحويل قيم التعليم إلى سلوك دائم في الحياة العامة؟
سواء كان العنف لفظيًا أو جسديًا ليس سوى عرضٍ لأزمة أعمق اسمها غياب ثقافة الحوار. فالمجتمع الذي لا يُعلّم أبناءه كيف يختلفون باحترام، سيجد نفسه عاجزًا عن إنتاج مؤسسات تشريعية قادرة على إدارة التعددية. وهنا تتجلى الأزمة التربوية قبل أن تكون سياسية، لأن الجامعة كانت وما زالت الحديقة التي تُخرّج النخب الفكرية، فإذا فسدت البذرة، فكيف ننتظر من الثمرة أن تكون ناضجة؟
يبدأ الخلل من تصورنا للحوار ذاته؛ نعتبره معركة يجب أن ننتصر فيها، لا مساحة للفهم المشترك. نغرس في نفوس طلابنا منذ الصغر أن الحق دائما معك وحدك، ثم نتعجب عندما يتقاتل ممثلونا على المقاعد بدل أن يتنافسوا على الأفكار والبرامج إنها دائرة تربوية وسياسية واحدة، تُظهر أن الوعي الجمعي لا يتغير بالقوانين وحدها، بل بالتربية العميقة التي تُعيد للعقل سلطته وللخلاف معناه الحضاري.
نحتاج إلى ثورة هادئة في التفكير التربوي والسياسي، ثورة لا تُرفع فيها الأصوات بل تُبنى فيها العقول. تبدأ من قاعة الصف وتنتهي عند منصة التشريع، تعيد الاعتبار للوعي الجمعي الذي فقد بوصلته في فوضى الانفعالات.
نحتاج اليوم إلى أن نعلّم أبناءنا أن الكلمة مسؤولية، وأن الحوار ليس ضعفًا بل شجاعة فكرية، وأن الاختلاف لا يُفسد للإنسانية معنى. فالمجتمع الذي يربّي أبناءه على الإصغاء قبل الكلام، وعلى التفكير قبل الردّ، هو وحده القادر على أن يقدّم مشرّعين يدافعون عن القيم لا عن المصالح، ويناقشون بوعي لا بانفعال.