د. عزالدين عبدالسلام الربيحات
في كل عام ، يقف جلالة الملك عبدالله الثاني أمام الشعب تحت قبة البرلمان ، حاملاً في كلماته ما هو أبعد من السياسة والاقتصاد ؛ جامعًا بين العاطفة والمسؤولية ، والإيمان بالوطن والرهان على الإنسان.
وفي خطاب العرش السامي ، تجلّت تلك المعاني بأبهى صورها ، حين نطق الملك بعبارة ستظلّ علامة فارقة في ذاكرة الأردنيين: "نعم، يقلق الملك ، لكن لا يخاف إلا الله ، ولا يهاب شيئًا وفي ظهره أردني". لم تكن هذه الجملة مجرد تصريحٍ عابر، بل كانت عقيدة وطنية تلخّص فلسفة الحكم الهاشمي ، القائمة على الشراكة مع الشعب لا المسافة منه ، وعلى الصراحة لا المجاملة ، وعلى الإيمان بقدرة الأردني على الوقوف بثبات في وجه العواصف.
لقد قدّم الملك في خطابه مزيجًا نادرًا من الصدق القيادي والدفء الإنساني ، حين تحدّث عن هموم الأردنيين وقلق القائد ومسؤوليته ، وعن تلك الثقة الراسخة التي يستمدها من وحدة الشعب وإيمانه بالله. وفي الوقت ذاته ، رسم ملامح المرحلة المقبلة بوضوح ، بأن الإصلاح السياسي مستمر، والعمل الحزبي النيابي يجب أن يكون في خدمة الوطن لا المصالح ، وأن الاقتصاد بحاجة إلى مشاريع كبرى واستثمارات تُترجم إلى فرص عمل وحياة أفضل للمواطن.
كما وجّه جلالته نداءً حازمًا للعمل والإنجاز حين قال : " نحن اليوم لا نملك رفاهية الوقت ، ولا مجال للتراخي" . وهي عبارة تختصر المرحلة الأردنية الراهنة ، حيث لا بدّ من تحويل الخطط إلى إنجازات ، والطموحات إلى واقع ملموس يشعر به المواطن في التعليم والصحة والنقل والخدمات العامة.
وفي ظل العواصف الإقليمية ، أعاد جلالته التأكيد على ثوابت الأردن التي لم تتبدّل يومًا : الوقوف إلى جانب أهل غزة الصامدين ، والدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية في إطار الوصاية الهاشمية التاريخية ، والتمسّك بالموقف الأردني الثابت من القضية الفلسطينية ، بوصفها قضية حق وعدل وكرامة.
وقد حمل الخطاب بين سطوره رسائل إلى الداخل والخارج ؛ إلى الداخل بأن الأردن قوي بشعبه وجيشه ومؤسساته ، وإلى الخارج بأن هذا الوطن الصغير بحجمه ، الكبير بدوره ، باقٍ على عهده العربي والإنساني. وكان حديث الملك عن الجيش العربي المصطفوي بمثابة تجديد للعهد العسكري والوطني حين قال : " هنا ، رجال مصنع الحسين ، درعًا مهيبًا " ، في إشارة إلى أن الأمن والاستقرار هما ثمرة وفاء الرجال الذين نذروا حياتهم للأردن.
وكما قال جلالته ، فإن الأردن وُلد في قلب الأزمات ، لكنه لم ينكسر يومًا ، لأن في ظهره شعبًا من معدنٍ لا يصدأ ، يؤمن أن قيادته منه وإليه ، وأن العرش لا يعلو إلا بقلوب الأردنيين التي تحمله.
إنها لحظة أردنية خالصة، يصافح فيها القائدُ شعبَه بالكلمة لا بالمشهد ، وبالصدق لا بالخطابة ، في تجسيد عملي لمعنى القيادة التي تشعر وتقلق وتحب وتخاف الله وحده.
ويبقى صدى العبارة الملكية يتردّد في وجدان الأردنيين : " لا أخاف إلا الله... وفي ظهري أردني " . كلمة تختصر التاريخ كله ، وتؤكد أن هذا الوطن ، بقيادته وشعبه ، سيبقى كما أراده الله: ثابتًا ، عزيزًا ، عصيًّا على الانكسار.
حمل خطاب العرش السامي روح الإيمان بالوطن والإنسان ، ورسّخ الثقة المتبادلة بين القائد وشعبه ، في مسيرةٍ لا تعرف التردد ولا الانكسار. كان الملك يتحدث لا بلسان السلطة ، بل بلسان الوطن كله ، فلامس القلوب قبل العقول ، وأيقظ في كل أردني شعور الفخر والانتماء.
وما بين قوله : "لا أخاف إلا الله" ، واعتزازه بأن " في ظهري أردني " ، كتب جلالته سطرًا خالدًا في ذاكرة الدولة ، يختصر معاني القيادة والوفاء والشجاعة ، ويؤكد أن هذا الوطن سيبقى كما أراده الهاشميون: عزيزًا ، ثابتًا ، ومنتصبًا كجباله ، لا يركع إلا لله.




