للكاتب والمحلل الأمني د. بشير الدعجه.
حين أصدرت محكمة أمن الدولة أحكامها في القضايا التي شغلت الرأي العام... من تصنيع الصواريخ إلى قضايا التجنيد والتدريب والطائرات المسيّرة، لم تكن تلك الأحكام حدثاً عابراً… بل كانت تأكيداً جديداً على أن الأردن يسير بخطى واثقة على طريق العدالة وسيادة القانون… وأن المخابرات الأردنية ما زالت كما عهدناها، مؤسسة واثقة، تعمل بصمتٍ واحترافٍ لتصون الوطن وتحمي العدالة في آنٍ واحد.
لقد أثبتت هذه القضايا أن جهاز المخابرات الأردنية لا يصنع أعداءً... بل يصنع الحقيقة… وأنه لا يُدير الملفات بروح الانتقام... بل بعقل القانون والضمير… فبعد تحقيقاتٍ دقيقة ومعمقة... أحال الملفات إلى القضاء مكتملة الأدلة دون أن يتدخل في الحكم أو يفرض اتجاهه… والنتيجة كانت نموذجاً في النزاهة والشفافية… من نُسبت إليه التهم وثبتت أدلته نال العقوبة، ومن لم يتحقق بحقه القصد الجرمي خرج حراً مرفوع الرأس.
هذا السلوك المؤسسي الناضج ليس وليد اللحظة… بل ثمرة تاريخٍ طويل من العمل الاستخباري المحترف الذي يوازن بين متطلبات الأمن واحترام القانون… المخابرات الأردنية لم تكن يوماً أداة قمع... بل درعاً للدولة وميزاناً للعدالة… تدير الخطر بعقلٍ باردٍ لا بانفعال، وتواجه التحديات بالتحليل لا بالعشوائية…
الأرقام تتحدث بوضوح… أكثر من 97% من القضايا التي تُحال من المخابرات إلى محكمة أمن الدولة تُستكمل وفق الإجراءات القانونية السليمة دون أي تجاوزٍ على حقوق الدفاع أو إخلالٍ بضمانات المحاكمة العادلة… وهي نسبة تُظهر أن الجهاز يعمل بدقةٍ متناهية… وأنه لا يكتفي بإحباط الخطر... بل يحرص على أن تكون معركته ضد الجريمة في إطار العدالة لا خارجها.
القرار القضائي الذي أعلن عدم مسؤولية أربعة متهمين في قضية الطائرات المسيّرة دليلٌ ساطع على حيادية الدولة وعدالتها… فالأجهزة الأمنية لم تسعَ إلى الإدانة بأي ثمن… بل وضعت الحقيقة فوق كل اعتبار… ولو كانت المخابرات تسعى لتلميع صورتها أو تحقيق انتصاراتٍ إعلامية... لما تركت أي متهمٍ يخرج بريئاً… لكنها اختارت طريق العدالة... لأنها تدرك أن هيبة الدولة لا تُبنى بالقسوة، بل بالإنصاف.
من زاويةٍ استراتيجية ... فإن المخابرات الأردنية تؤدي اليوم دوراً يتجاوز مفهوم الأمن التقليدي… فهي العقل المركزي للدولة الذي يرصد التهديدات قبل أن تتفاقم… ويحول دون تسلل الفوضى إلى المجتمع… ويعمل بذكاءٍ واتزانٍ في زمنٍ تتعقد فيه التهديدات وتتشابك فيه المصالح… ومع ذلك، فإنها ما تزال تُصر على أن تبقى تحت سقف الدستور والقانون…
إن هذا النموذج من العمل الأمني... القائم على العدالة والاحتراف، هو ما جعل الأردن واحة استقرارٍ وسط بيئةٍ تعصف بها التوترات… لأن المواطن الأردني بات يعلم أن جهاز المخابرات ليس خصماً له، بل حاميه… وأن من يقف وراءه هم رجالٌ يؤمنون أن القوة بلا عدالةٍ ضعف… وأن القانون بلا إنصافٍ ظلم.
ما جرى في قاعة محكمة أمن الدولة لم يكن مجرد محاكمة… بل كان عرضاً حياً لضمير الدولة الأردنية وهي تمارس مسؤوليتها بأعلى درجات الشفافية… المخابرات الأردنية خرجت من هذه القضايا كما دخلتها… نظيفة اليد… ناصعة السيرة… رافعة الرأس… لأنها لم تُدان أمام القانون... بل زادت احتراماً في عيون الأردنيين.
إنها ليست مؤسسة أمنية فحسب… إنها مدرسة وطنية في الشرف والانضباط والعقلانية… مدرسة تؤمن أن حماية الوطن تبدأ من حماية العدالة… وأن الأمن الحقيقي لا يُفرض بالقوة... بل يُصان بالثقة.
وهكذا تبقى المخابرات الأردنية عنواناً للطمأنينة… وركيزة للثبات… وضميراً لا يعرف الانحراف عن الحق مهما اشتدت العواصف... وللحديث بقية.



