
د. ميسون تليلان السليم
في بلدٍ فتيٍّ كالأردن، حيث الشباب هم الكتلة الحرجة والطاقة الكبرى، لا يمكن لملف البطالة أن يُقرأ كرقمٍ عابر، أو يُقارب بحلول ترقيعية. البطالة هنا ليست ظاهرة اقتصادية فقط، بل هي بنية مُركّبة تشابكت فيها التحديات الاقتصادية مع الفجوات التعليمية، والخيارات السياسية، وانسداد الأفق الاجتماعي.
فالشاب الأردني لا يفتقر إلى الطموح، بل إلى ما يُترجم هذا الطموح إلى مسار. وما يزال نظام التوظيف والتأهيل قائمًا – في كثير من حالاته – على أنماط تقليدية لا تنتمي لعصر ما بعد الثورة الرقمية، ولا تُخاطب السوق بمرونته وتغيراته. فهل ما زال مقبولًا أن يبقى التوظيف مرتبطًا بالكُتب المدرسية، والمقاعد الجامعية، والانتظار على بوابات ديوان الخدمة؟ وهل ما زال يُقاس الحلم بالشهادة، لا بالمهارة؟
لا يُمكن إنكار المحاولات الرسمية العديدة، بدءًا من رؤية التحديث الاقتصادي، ومرورًا بتطوير مؤسسات التدريب المهني، وحتى تحول ديوان الخدمة إلى هيئة. لكن الأثر الملموس ما يزال محدودًا. لماذا؟ لأن المقاربة ما تزال قائمة على منطق: "ماذا نُعلّم؟" بدل أن تكون: "ما الذي يبحث عنه السوق؟". وبين السؤالين، تتسع الفجوة بين التعليم والواقع، بين التأهيل والتوظيف، بين الحلم والحقيقة.
ولعلّ من الإنصاف القول إنّ جزءًا كبيرًا من التحديات المتراكمة في ملف البطالة يعود إلى اختلالات في أداء الحكومات المتعاقبة، والتي تعاملت مع هذا الملف أحيانًا بمنطق الإرجاء أو الحلول الظرفية، دون أن تنفذ إلى عمق الإشكال الهيكلي الذي يربط التعليم بسوق العمل، والمهارة بفرصة التمكين الاقتصادي. إنّ القراءة المتأنية لهذا الواقع تُظهر أن الإشكال لم يكن يومًا في غياب الرؤية، بل في آليات تطبيقها، وجرأة مراجعتها، واستعداد المؤسسات لتبني التغيير الجذري لا التجميل الإداري.
وهنا يظهر مفهوم "الحل العكسي" (Reverse Solution) كمدخل منهجي عميق لمعالجة هذه التحديات. وهو نهج إداري وإبداعي يعتمد على قلب المشكلة رأسًا على عقب، بالتركيز على فهم كيف تتولد أسباب الفشل، بدلًا من الاكتفاء بالسعي نحو الحلول التقليدية. فبدلًا من أن نسأل: كيف نُقلّل البطالة؟ نسأل: كيف نُكرّسها؟ من خلال هذا التمرين الفكري المعكوس، نكتشف أن النظام القائم يُكرّس البطالة لأنه يُعلّم خارج سياق السوق، ويُخرّج بلا مهارات رقمية، ويُدرّب دون تمويل مستدام أو شراكات حقيقية، ويُوظف وفق أنماط الواسطة والمجاملات، لا الكفاءة والمهارة.
هذا النهج يُحفّز الإبداع في التفكير، ويُظهر المخاطر المخفية، ويُعيد تشكيل القرارات عبر تعزيز التفكير النقدي وتحليل البدائل. وهو ما يمكن تبنيه اليوم في مقاربة ملف البطالة من زاوية غير تقليدية.
إن الفرصة الذهبية اليوم تكمن في هندسة منصات وطنية تحت الطلب، لا تكتفي بعرض الوظائف، بل تقرأ احتياجات السوق وتُشخّص مهارات الباحث عن العمل، وتربطه تلقائيًا ببرامج تدريب رقمي ومهني متخصصة وفقًا لتحليل فجواته الخاصة. هذه المنصات، إن طُبّقت بذكاء وشفافية، قادرة على إعادة توزيع الفرص بعدالة وكفاءة، وتُصبح مرآة للمواطنة الرقمية الحقة.
كما أن دمج التعليم المهني الموازي والرقمي منذ المرحلة الثانوية يُعد رافعة أساسية لاختصار المسافة بين الفكرة والتطبيق. فحين يتخرج الشاب وهو يحمل إلى جانب شهادته الأكاديمية محفظة مهارات قابلة للتشغيل، يصبح مؤهلًا لا لفرصة واحدة، بل لمسار مهني متجدد ومتنوع. هذا يتطلب إرادة وطنية لتغيير بنية المناهج، وشراكة حقيقية مع القطاع الخاص، وصناديق دعم تُوجَّه نحو المهارة لا فقط نحو الشهادة.
إعادة تعريف مفهوم التميز الوظيفي يُعد أيضًا ضرورة. لم يعد التميز مرتبطًا بالدرجات فقط، بل بالقدرة على اقتراح الحلول، وتحقيق الأثر، والتكيّف مع المستجدات. هنا، يمكن تطوير نماذج تقييم أداء حديثة في القطاعين العام والخاص، تستند إلى الإنتاجية، وتُكافئ الفعالية، وتفتح باب الترقّي أمام كل من يُضيف، لا فقط من يُنجز ما هو متوقع.
في جوهر الأزمة، لا تكمن المشكلة في غياب الحلول، بل في غياب الجرأة على الاعتراف بأن المنظومة الحالية لم تعد صالحة كما هي. وأن الحديث عن البطالة بلغة الإنشاء لن يخلق وظيفة، كما أن انتظار السوق ليصحّح نفسه مجرد وهم.من هنا، يبدو لزامًا على الدولة أن تُعيد النظر في آليات الربط بين الرؤية والسياسات، بين الشباب والفرصة، بين الذكاء الاصطناعي والعدالة الاجتماعية. فالأردن، الذي أنجب أطباء وعلماء ورياديين في كل العالم، لا تنقصه الكفاءات، بل المسارات.