
أ.د.عبد المنعم همت / سوداني مقيم في الامارات
تجيء رواية "ظلّ الملكات "كعمل أدبي يختبر جوهر الإنسان في أكثر حالاته صدقاً وهشاشة، إذ تتخذ من السرد وسيلة لاكتشاف المعنى، ومن اللغة مرآة تكشف عتمة الذاكرة. هي ليست حكاية نساء يبحثن عن خلاصٍ فردي، إنّما تأملٌ طويل في الإنسان وهو يسير داخل ظله نحو ضوءٍ لم يعرفه من قبل.
في هذا النص يتجاوز السرد حدود الحكاية، ليصبح تجربة فكرية تتناول فكرة الوعي في لحظته الأولى، لحظة انبعاث الذات من الصمت إلى القول، ومن الخوف إلى الفهم.
تبدأ الرواية بخطوة صغيرة، امرأة تمشي في شارعٍ رماديّ يفيض بالضجيج والغبار. إلا أن هذه الخطوة تتحوّل سريعاً إلى إعلانٍ رمزي عن ميلادٍ جديد للذات. كلّ ما في المشهد يوحي بأن البطلة لا تتحرك في المكان فقط، بل تعبُر نحو وعيٍ آخر. فالتحوّل في النص ليس حدثاً خارجياً، إنّما فعلٌ داخليّ يخصّ النفس وهي تكتشف أنّ الحياة لا تُعاش بالتكرار، وإنما بإدراك المعنى الكامن في أبسط اللحظات.
تجعل الكاتبة من اللغة أداة للتحرّر، لا قيداً للعبارة. الكلمة هنا ليست زخرفاً، إنها طاقةٌ حيّة قادرة على إعادة ترتيب العالم. وحين تقول البطلة: «نحن هنا لنبدأ»، يتجلى القرار العميق بالانبعاث من داخل الذات. الجملة بسيطة، غير أنّها تحمل صدى الثورة الصامتة التي لا تعتمد الصراخ وسيلةً للتعبير عن الحرية، بل تصوغ حريتها عبر الفهم والمعرفة. هكذا تتحول اللغة إلى وعي، ويتحوّل الوعي إلى فعلٍ جماليّ يحرّك النص ويمنحه عمقه الإنساني.
تتفوق الرواية في تحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى رموزٍ كونية. الحقيبة التي تحملها البطلة تبدو شيئاً عادياً، لكنها تتحوّل إلى ذاكرة كاملة تختزن حكاياتٍ أُهملت، والشارع الذي تمشي فيه يبدو مألوفاً لكنه يمثل صورة للواقع الاجتماعي الذي يبتلع الفرد ويقمع الاختلاف. حتى الظلّ الذي يشكّل عنوان الرواية يتجاوز معناه البصريّ، ليصبح أثراً للنور، وذاكرةً للوجود. كلّ ظلّ في النص يحمل معنى البقاء، وكلّ ضوء يذكّر القارئ بأن الذاكرة هي الوجه الآخر للحرية.
تشتغل الرواية على فكرة الذاكرة بوصفها مقاومةً للزوال. فالقهر الأكبر الذي تتحدث عنه الكاتبة ليس ذلك الذي يمارس على الجسد، وإنما ذاك الذي يصيب الحكاية حين تُمحى من الذاكرة. ومن هنا تتحول الكتابة إلى عملٍ إنسانيّ أخلاقي، يحاول أن يعيد إلى الوجود ما نُسي، وأن يمنح الغائبين فرصة جديدة للظهور في لغةٍ أكثر عدلاً وصفاءً. فالتذكّر في النص فعل مقاومة، والحكاية التي تُروى نوعٌ من استرداد الكرامة المفقودة.
وفي عمق الرواية، يظهر صراع خفيّ بين السلطة والذاكرة، بين الصوت الذي يفرضه التاريخ، والصوت الذي يحاول أن ينجو من صمته الطويل. الشخصيات في هذا الفضاء السردي ليست نماذج اجتماعية، وإنما رموز لفكرٍ يبحث عن خلاصه. «هاجر» في النص تمثّل الوعي الذي ينهض من بين الركام، و«فاطمة» الأمّ تمثّل الجذر الذي يحفظ المعنى في صمتٍ عميق. بين الاثنتين يتشكل الحوار الأبدي بين الماضي والمستقبل، حيث لا يتحقق الوعي إلا حين يتصالح الإنسان مع ذاكرته، لا حين ينكرها.
الصمت في الرواية لغةٌ قائمة بذاتها، ليس انسحاباً من القول، وإنما مساحة تفكيرٍ عميقة. فالشخصيات لا ترفع أصواتها، لأنها تعرف أن الوعي الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج كي يُسمع. الصمت يتحوّل إلى فضاءٍ روحيّ تُصاغ فيه الأسئلة الكبرى حول الخوف، والإيمان، والكرامة، والقدرة على أن تكون ذاتك في عالمٍ يريد أن يصنعك على صورته. في هذا الصمت تتجلّى قوة النص، ويولد شعور بأن الهدوء قد يكون أبلغ من الصراخ في مواجهة القهر.
الكاتبة تكتب بلغة رشيقة مشحونة بالفكر، جملها قصيرة لكنها تنفتح على تأملٍ طويل. تقول إحدى الشخصيات: كل فجر لا يولد من الضوء، بل من قرار، فتبدو الجملة كأنها بيان فلسفيّ أكثر منها وصفاً. النور في الرواية ليس ظاهرة فيزيائية، بل وعي يقرره الإنسان حين يختار أن يرى. هذا التحوّل اللغويّ يجعل من الرواية نصاً يعيش في منطقةٍ بين الشعر والفكر، حيث يتحول الجمال إلى أداة فهمٍ لا إلى ترفٍ جمالي.
تتحرك الرواية في اتجاه إنسانيّ شامل، لا تُقدّم المرأة كضحيةٍ، وإنما ككائنٍ يخلق معناه من داخله. الرجل في النص ليس خصماً للمرأة، وإنما شريك في التجربة الإنسانية التي تصارع جهلها وخوفها معاً. فالوعي في الرواية ليس امتيازاً لجنسٍ دون آخر، بل صفة للإنسان حين يجرؤ على أن يفهم ذاته. لذلك تبدو العلاقة بين المرأة والرجل في النص علاقة وعيٍ مشترك، لا صراع وجودي.
يمكنني القول بان الرواية تقف عند تخوم الفلسفة، وتفتح سؤالها الأخير: هل يمكن للإنسان أن يكتمل من دون أن يتصالح مع ظله؟ الجواب يتسرّب من بين السطور لا في شكل يقينٍ، وإنما كحكمةٍ ناعمة تقول إن النور لا يُدرك إلا إذا كان للظلّ حضورٌ معه. فالمصالحة مع الظلّ ليست ضعفاً، إنما وعي بأن الكمال في التوازن، لا في النقاء المطلق.
هكذا تنتهي «ظلّ الملكات» كما بدأت، بصوتٍ هادئ يحمل يقيناً بأن الجمال وحده هو الذاكرة التي لا تموت، وأن الكلمة إذا كانت صادقة قادرة على أن تنقذ الإنسان من عماه.
هي رواية تكتب الوجود بصدقٍ إنسانيّ نادر، وتمنح الأدب العربي تجربةً جديدة في التفكير بالجمال، وتمنح القارئ درساً في الإصغاء إلى صمته العميق، حيث يبدأ الوعي وتولد الحرية