القلعة نيوز - د. حسين البناء
تمر أية دولة في مسيرة تاريخها بأزمات مختلفة و على كل الصعد، في مثل هذه الحالات تستنهض الأمم أقصى طاقاتها للخروج من مشكلاتها بأقل الخسائر، وليس أكبر من أزمة الكساد العظيم الذي عانت منه الولايات المتحدة في الثلاثينيات من القرن الفائت. تمتلك الدول جملة أدوات لضبط المؤشرات و توجيه النشاط الاقتصادي، أحد أهم تلك الأدوات يتمثل بالسياسة المالية و كذلك السياسة النقدية حيث التحكم بحجم المعروض النقدي و سعر الفائدة.
تهدف أدوات السياستان النقدية والمالية لضبط و توجيه مؤشرات الأداء الاقتصادي، بدءًا بالتضخم و البطالة و سعر الصرف و الإنتاج و الميزان التجاري و القوة الشرائية وتوجيه الائتمان و غير ذلك من مؤشرات.
الفريق الحكومي الأردني و الذي تبنّى أدوات السياسة المالية منفردةً في خطته الإصلاحية أعلن مؤخرًا تعثر تحقيق الأهداف المرجوّة من الإجراءات الضريبية السابقة حيث كان الأثر سلبي وعلى المدى القريب بسبب تراجع حجم النشاط الاقتصادي و تعزيز حالة الركود و بالتالي تراجع حجم الإيرادات الضريبية لاحقًا.
المشاكل المعقدة تحتاج حلولًا خلّاقة و استثنائية، والعقلية التقليدية التي تدير الملف الاقتصادي لم تستطع تجاوز الاعتبارات المحافظة المتعلقة بسعر الصرف و قانون الضريبة و سعر الفائدة، الأمر الذي جعلنا نعيد ابتكار العجلة كما كانت عام 1989.
الدين العام في 2019 بلغ (39 مليار دولار) أي ما نسبته (90%) من الناتج المحلي الإجمالي، منه (56%) دين داخلي، و بلغ عجز الموازنة (900 مليون دولار)، و برغم ذلك فإن صاحب القرار ما زال يستخدم ذات الأدوات التي عجزت سابقًا عن إحداث تغيير حقيقي في مؤشرات الأداء الاقتصادي.
سيناريو الحل:
قد تنجح آليات جريئة و خلّاقة في إخراج الأردن من "عنق الزجاجة الممتد” الذي يكاد يراوح مكانه منذ ثلاثة عقود، مع ضرورة بناء نماذج (اقتصاد قياسي) رياضية استشرافية لتقدير مدى التأثير و ردود الفعل المتوقعة بالأرقام على كل إجراء يتم ضمه إلى استراتيجة الإنقاذ، وهذه الحزمة تشمل: المعروض النقدي و سعر الصرف و الضرائب و الاستثمار و سعر الفائدة و الاحتياطي والتحوط لدى البنك المركزي.
أولًا:- المعروض النقدي: في حالة الركود فإن زيادة المعروض النقدي من العملة الوطنية سوف يزيد من حجم المال المتاح للعمل في الدورة الاقتصادية، أي أن الأفراد و الشركات و الحكومة سوف تمتلك أموالًا أكثر للإنفاق الأمر الذي يُحرّك عجلة النشاط الاقتصادي بعيدًا عن الركود و سوف ينشّط الاستهلاك و التوظيف، لكن هذا سوف يرفع نسبة التضخم لاحقًا و قد يؤثر على تراجع سعر الصرف مقابل العملات الأجنبية. توجيه جزء من المعروض النقدي لتسديد الدين الداخلي المُصدر بالدينار سوف يكون له الأثر البالغ على حجم النشاط الاقتصادي و حجم المديونية العام.
ثانيًا:- سعر الصرف: برغم أن استقرار سعر الصرف من المؤشرات الجيدة فإنه لم يعد من الحكمة التمسك بمبدأ تثبيت سعر صرف الدينار مقابل الدولار حول 1.4 $ ، فقد يكون من الجريء و المفيد إعادة ضبط سعر الصرف عند مستوى (الدينار بدولارٍ واحد) لتكون هذه التضحية في سبيل تحسين مؤشرات أكثر أهمية و خاصةً بأن اقتصاد الأردن غير قائم على التصدير أصلًا، بل سيساهم هذا برفع كلفة المستوردات الأمر الذي قد يعزز التوجه للشراء و التصنيع المحلي، قد يكون التفلت من (بريتون وودز) مجديًا أحيانًا.
ثالثًا:- الضرائب: تعتبر الضرائب أحد أهم أدوات السياسة المالية؛ فهي أكبر مورد للخزينة، ولكن في ظل ركود مزمن فإن خفض الضرائب من شأنه توسيع مساحة الدخل القابل للإنفاق، أي تعزيز الاستهلاك، أي تحسين النشاط الاقتصادي، أي تنامي العوائد الضريبية على المدى المتوسط.
رابعًا:- الاستثمار: لا يمكن إحداث حالة تنمية حقيقية مستدامة، و تحسين التوظيف و المؤشرات الاقتصادية الأخرى بدون استراتيجية وطنية متكاملة هادفة لجذب الاستثمار. فأي مستثمر في العالم سوق يقوم بدراسة جميع البيئات الاقتصادية المتاحة أمامه للاستثمار، وهي كثيرة و جاذبة، فأسواق مثل الصين و أوروبا و كندا و أستراليا و اليابان و الولايات المتحدة، و دول (BRICS & G20) ستظل في مركز اهتمام الاستثمار العالمي و لعقود قادمة. العمل جاد بين دول العالم على رفع تنافسية الاستثمار، و الجميع يجتهد في جذب كل دولار متاح يبحث عن أرضية استثمارية خصبة تعود عليه بأعلى ربحية و أقل مخاطرة ممكنة، فنحن أمام سوق عالمي مفتوح على ذلك، و لن يكون من السهل تحقيق تقدم على مستوى العالم في تصنيف التنافسية بدون جواذب كبرى قد تشمل إعفاءات ضريبية، و تسهيلات جمركية، و اتفاقيات للتجارة الحرة، و مجّانيّة لبعض الأصول كالأرض و البنى التحتية، و حوافز تتعلق بالتأمين الصحي و الضمان الاجتماعي و دعم المشاريع الصغيرۃ.
خامسًا:- سعر الفائدة: في غضون عامٍ واحد نَفّذ الاحتياطي الأمريكي سلسلة من تخفيضات سعر الفائدة، و تبعها إجراء مماثل في الأردن. تخفيض سعر الفائدة -كأداة للسياسة النقدية- من شأنه التوجه للاستثمار في قطاعات السوق الحقيقية كالصناعة، و سعر الفائدة المرتفع معناه كلفة عالية على المُقترِض و المُستثمِر، و تخفيض سعر الفائدة من شأنه تعزيز حجم الائتمان و توجيهه لمجاري تنموية مقصودة.
سادسًا:- الاحتياطي و التحوّط: يمكن اعتبار نسبة التحوّط و الاحتياطي الإجباري و الاختياري هامش أمان من الانكشاف على المخاطرة، ولكنه في ذات الوقت حجز و تجميد لمال قد يتم إقراضه و استثماره في السوق، في حالة الركود من المنطقي تخفيض تلك النسب و التفلت من (بازل) التي تتعاطى مع اقتصاديات كبرى و هياكل اقتصادية لا تشبه الحالة الأردنية المتمايزة.
نحن في الأردن لسنا مُكلّفين بإعادة اختراع العجلة، فقد سبقتنا اقتصاديات كثيرة في تجارب أكثر قسوةً، ليس علينا سوى استقراء أفضل الممارسات التي تم تطبيقها على أمل الخروج من الراهن الذي طال.
*أكاديمي وخبير سياسات