//من المؤكد أننا أمام شرق أوسط جديد سيعاد تشكيل حدوده من جديد، وسوف تكون القوة حاكمة لما سيجري، خاصة أن الأطراف الإقليمية العابثة بالأمن القومي العربي، وهي تركيا وإيران وإسرائيل، ستستثمر الحالة العربية الراهنة، وستعمل على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، الأمر الذي يتطلب موقفا عربيا حقيقيا يتجاوز الخطاب السياسي الراهن//
القلعه نيوز - أ. د. طارق فهمي *
تتجه الحكومة التركية لتنفيذ مخططها السياسي والاستراتيجي في شمال شرق سوريا، فبعد عدة أيام من بدء العملية بدأت تتكشف المخططات التركية الحقيقية من خلال مسارات التحرك العسكري، وبدء تنفيذ الأهداف المرجوة في ظل تنسيق غير معلن مع الولايات المتحدة وقبول روسي صامت، على الرغم من كل الإدانات والشجب والتنديد بالعملية التركية، وهو ما ينطبق أيضا على الموقف الأوروبي باستثناء الموقف الفرنسي، إلا أن الوقائع الجارية تشير إلى أننا أمام سيناريو تركي بالأساس، تم التخطيط له جيدا منذ عدة أسابيع، وأن تركيا ناقشت تفاصيل ما جرى لاحقا مع حليفتيها روسيا والولايات المتحدة، وأنها طرحت كل ما تقوم به الآن في إطار هدف معلن، وهو إقامة منطقة آمنة لتسمح بعودة النازحين السوريين وتأمين الحدود السورية التركية، من خلال خط فاصل سيكون بطبيعة الحال منطقة عازلة في حدود 30 كلم2، وفي هذا السياق يجري العمل على تأمين عناصر داعش في السجون الكردية ونقلهم إلي مواقع أخرى، أو السماح لهم بمغادرة المنطقة لمواقع أخرى في الإقليم سواء داخل سوريا أو العراق أو الحدود الأردنية السورية، أو النزول للساحل، وليس الاتجاه لأوروبا كما هدد أردوغان، وهو ما يذكربعمليات مشابهة تمت في السنوات الأخيرة بعد خروج التنظيم من العراق وسوريا وتشرذم عناصره إلى مواقع عدة. من المؤكد أننا أمام شرق أوسط جديد سيعاد تشكيل حدوده من جديد، وسوف تكون القوة حاكمة لما سيجري، خاصة أن الأطراف الإقليمية العابثة بالأمن القومي العربي، وهي تركيا وإيران وإسرائيل، ستستثمر الحالة العربية الراهنة، وستعمل على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، الأمر الذي يتطلب موقفا عربيا حقيقيا يتجاوز الخطاب السياسي الراهن
الرسالة التي يريد أن يؤكد عليها الرئيس التركي أردوغان أنه سيمضي في هدفه، ولن يتراجع ليرسم حدود بلاده مع سوريا بالدم، وليس بالجغرافيا الطبيعية أو الحدود المتعارف عليها، في إطار مخطط تركي واضح لعسكرة السياسة الخارجية لتركيا من الآن فصاعدا، وما جرى مع سوريا سيجري بعد قليل مع اليونان وقبرص في إقليم شرق المتوسط، خاصة أن الأهداف التركية معلنة وواضحة، وفي ظل صمت أوروبي، باعتبار أن تركيا عضو في حلف ناتو، ومن ثم لا يمكن للدول الأوروبية أن تتبنى توجهات عدائية أو عسكرية تجاه دولة في الحلف؛ حيث لم يحدث ذلك من قبل، وهو ما قد يؤدي لتباينات حقيقية لمواقف وتوجهات دول الحلف في توقيت بالغ الصعوبة، وفي ظل مخطط أمريكي كبير لضرب الاستقرار داخل الحلف من خلال التأكيد على وجود عدم استقرار سياسي واستراتيجي بين دوله.
إن أخطر السيناريوهات المطروحة استمرار العمليات العسكرية وبقاء القوات التركية لتنفيذ مهامها طويلة الأجل في سوريا، مما يعني أننا أمام احتلال مقيم على الأراضي السورية، ولحين ترتيب الأجواء وتهيئة المناخ للوصول إلى الهدف الاستراتيجي التركي، والذي سيتجاوز بعد قليل إقامة المنطقة الآمنة لأهداف أخرى في الأراضي السورية، وربما بعد قليل في الأراضي العراقية، مع الاستمساك بالورقة الكردية ومخاطرها واستمرار تهديدات حزب العمال الكردستاني، ومن ثم فإن الذهاب إلى استمرار المواجهات العسكرية سيعني في محصلته تعطيل التحركات السورية الروسية الإيرانية للتسريع بالتوصل إلى خيارات سياسية؛ إذ إن مسار أستانة سوف يتجمد، كما أن العودة إلى سوتشي سيحتاج إلى مواقف جديدة في ظل مخاوف النظام السوري من عودة العناصر الإرهابية للتمركز في الداخل، والبدء في مواجهات جديدة حول سوريا المفيدة وما يليها، وليتأكد الخيار التركي في العمل بصورة منفردة دون الرجوع للجانبين الروسي والأمريكي، إلا في المشاورات السياسية وتبني الخيارات الاستراتيجية، التي لم يعترض عليها أحد في المحصلة الأخيرة.
سيستمر التدخل التركي قائما ولن يتراجع، في ظل غياب مجلس الأمن، الذي سيعجز فعليا عن إصدار قرار ملزم بسحب القوات التركية، في ظل الاعتراض الروسي وغياب الضغط الأمريكي، ومناورة أمريكية يقودها الرئيس ترامب، والذي لوح بسياسة العقوبات من خلال وزارتي الدفاع والخزانة، ومعطلا اتخاذ أية تدابير حقيقية لحين اتضاح الرؤية، ومنتظرا ما سيمضي فيه الجمهوريون والديمقراطيون لسن تشريع لن يصل إلى درجة القانون الفيدرالي في التعامل مع الحكومة التركية، وفرض إجراءات وتدابير اقتصادية على الرئيس التركي أردوغان وعدد من رموز حزب العدالة والتنمية وبعض الوزراء، وأهمهم وزراء الدفاع والطاقة والخارجية، وهو إجراء قد يأخذ عدة أشهر مما سيسمح للجانب التركي تحقيق أهدافه الاستراتيجية، مستخدما كل الوسائل الرادعة التي يمكن أن تفعل تحقيق أهدافه بصورة مباشرة، خاصة أن الوقت سيمر، وستدخل هذه الإدارة متاهات الاستعداد للانتخابات الرئاسية.
من المؤكد أننا أمام شرق أوسط جديد سيعاد تشكيل حدوده من جديد، وسوف تكون القوة حاكمة لما سيجري، خاصة أن الأطراف الإقليمية العابثة بالأمن القومي العربي، وهي تركيا وإيران وإسرائيل، ستستثمر الحالة العربية الراهنة وستعمل على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، الأمر الذي يتطلب موقفا عربيا حقيقيا يتجاوز الخطاب السياسي الراهن، وتبني مواقف عربية رادعة في مواجهة القوى الإقليمية، والعمل على إحياء النظام الاقليمي العربي مجددا.
*أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة - كاتب في موقع / العين نيوز / الاماراتي