يختال الشيخان، ويشعران بالاعتزاز بعدما أفاض غليص عليهما أفخم مفردات التمديح والتحميد.
لكن يظهر صباب القهوة فلاح ويسأل الشيخ غليص متعجبا: طال عمرك! تشاورهم!
يجيب غليص: إي يا فلاح، هذول كبارنا ورجالنا، لزوم أشوارهم وأسمع منهم.. وأساوي إلي براسي.
يختصر هذا المشهد الكثير عن ديمقراطيتنا، ويلخص لنا كيف يتسابق المترشحون سعيا لإرضاء الناخبين بشتى الوسائل والطرق والوعود، وعند وصولهم الكرسي يختفون ويفعلون ما برؤوسهم كحالة غليص، لذا علينا الانتقال من التشخيص إلى العلاج.
يعد مصطلح الأحزاب السياسية بمفهومه الحالي ظاهرة حديثة، فهو لم يكتسب معناه الذي نعرفه اليوم حتى منتصف القرن التاسع عشر، وإن كان قد أطل برأسه في ديمقراطية أثينا.
ليس للحزب السياسي تعريف جامع ومتفق عليه بل تتعدد تعريفاته وتتباين، لكنني أفضل تعريف الحزب السياسي القائل بأنه مجموعٌ يسعى إلى تأطير وتمثيل الشرائح المجتمعية ضمن برامج تُمكّن في النهاية من الوصول إلى السلطة.
إن بناء الدولة الديمقراطية المدنية يحتاج روافع أساسية قوامها احترام حقوق الإنسان ودعم حقوق الفرد الأساسية والسياسية والثقافية والاقتصادية أيًا كان دينه أو معتقده، وضمان حريات الأفراد والمجموعات وتعددهم وتنوعهم، وبناء المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية القائمة على مراقبة بعضها والفصل بين سلطاتها دون تغول أو إخلال، وصولا إلى أحزاب تتداول السلطة سلميا دون احتكار أو إقصاء، وهنا مربط الفرس.
فقد أكد جلالة الملك عبدالله الثاني سواء في أوراقه النقاشية أو في مقالاته أو في خطاباته المباشرة لشعبه الأردني، على ضرورة تفعيل الحياة الحزبية، بهدف الوصول إلى الأردن الحديث الذي تملكه الأجيال الشابة وتقوده حكومات حزبية منتخبة، متجاوزين مخاوف الماضي.
لدينا في الأردن إرث وتراكمات سياسية وأمنية تجعلنا حتى هذه اللحظة سجناء في متاهات الماضي، لكنها من الماضي، ولّت وعفى عليها الزمان وأكل، واليوم يَضمنها رأسُ الدولة بنفسه، والقانونُ بنصه، فلم يعد لدينا مبرر للعزوف عن ممارسة حقوقنا السياسية وتفعيل الحياة الحزبية من جديد.
لقد بدأت الحياة الحزبية عند الأردنيين عام 1919 أي قبل تأسيس الإمارة عام 1921، من خلال انضمام العديد منهم لحزب الاستقلال السوري، الذي شكّل له لاحقا فرعا في الإمارة، وشارك أعضاءٌ منه في أول حكومة أردنية برئاسة رشيد طليع عام 1921.
وقبل الوصول إلى عام 1989 وانتهاء حقبة الأحكام العرفية واستئناف الحياة الحزبية، فإن البلاد قد اختبرت حياة سياسية فاعلة ونشاطا حزبيا قويا ولافتا، من ظهور حزب الشعب الأردني عام 1927 إلى المؤتمر الوطني الأول، وحزب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني، وأحزاب التضامن والإخاء وعصبة الشباب المثقف، وظهور الإخوان المسلمين، والأحزاب الشيوعية والاشتراكية والقومية والبعثية.
وكان البحث عن الهوية الوطنية الأردنية العروبية، ومقاومة الاستعمار البريطاني، وقضايا الأمة في فلسطين وسوريا، على رأس الأولويات التي ناضلت لأجلها الأحزاب الأردنية.
ومن نافلة القول أن الأحزاب هي الحامية والبانية للديمقراطية في كل دول العالم، وأننا نعيش في دولة لا ينقصها شيء لتفعيل حياتها السياسية والحزبية، فقد ضمنت لنا الدولة ممثلة بجلالة الملك ودستورها وقانونها، التنشئة السياسية التوعوية، وتسهيل عمل الأحزاب، وتوفير البيئة التي تشجع العمل الحزبي والمشاركة فيه، والآن يأتي دورنا على الصعيدين النخبوي والشعبي.
فالأحزاب لا تبنى من الأعلى إلى الأسفل، لذا على النخب القديمة أن تنهي حالة التشرذم الحزبي بالتحالف والتآلف والاندماج، انطلاقا من إنهاء حالة احتكارها للأحزاب، وتطوير الديمقراطية الداخلية للأحزاب، وإعادة تأهيل نفسها تنظيميا وبرامجيا على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، بما يُمكّن الحزب من التعبير عن هويته، وإفساح المجال لإنتاج قيادات تغييرية جديدة، تمتلك رؤية واضحة، وتقدر على مخاطبة الجماهير وتمثيل مصالحهم وطموحاتهم واتجاهاتهم، واستقطاب تلك الجماهير بعيدا عن الجهوية والقرابة والفزعة والمحسوبيات الفاسدة.
أما بالنسبة للناس غير الحزبيين، فأولا أسجل عتبي على كل من يعيش حالة العدمية والسخط والبؤس، ويحكم على مستقبلنا وتجربتنا الحزبية بالفشل حتى قبل أن نجربها!
فالاعتراض لأجل الاعتراض، يخدم كما قلت تلك الحالة النخبوية التي تسعى لتجميد الوضع القائم وإبقائه دون تغيير، خدمةً لمصالحها الضيقة الشخصية، فأي سكونٍ وصمت يعني البقاء مكاننا بل والتراجع إلى الوراء، ما أود قوله أن أي تجربة منظمة جادة تعني ضرب العشوائية بالصميم، والبدء بالسير على شعار "شلع قلع" العراقي، الذي يستفز ويخيف الوجوه التقليدية القديمة التي لا مصلحة لها بالإصلاح والتغيير.
إذا أردنا التغيير، فعلينا أن نشمر عن أذرعنا، وأن نتقدم للمنافسة وخوض الغمار السياسي، وطرح رؤيتنا وأولوياتنا وهمومنا، فلا يمكن أن نطلق حكما مسبقا دون امتلاكنا إرادة جادة وتجربة عملية وممارسة حقيقية.
أنا أعرف أن هناك مناخات سلبية عصفت بنا، وأن هناك حالة كبيرة من فقدان الثقة بالعملية السياسية، لكن هذا الإحباط لن يولد أفقا رحبا، فالانتخابات السابقة والتي قبلها لم تصل نسبة المشاركة فيها إلى ثلاثين في المئة، وهذا يعني أننا إن لم نجد من يمثلنا، فعلينا أن نمثل أنفسنا بأنفسنا كمواطنين فاعلين، وليس أن نقف متفرجين!
فالدورة المقبلة فيها 40% مقاعد مخصصة للحزبيين، والتي بعدها 50%، والتي بعدها 65%، إذًا فالقرار عندنا، إمّا أن نشكل أحزابا أو نصير حزبيين أو نشارك في الانتخابات على الأقل، وبعدها نحاكم تلك الأحزاب على أساس برامجي بحت.
فالحزب الذي يخفق ولا يفي أو يلتزم بوعوده وبرامجه، نعاقبه على صعيدين، كحزبيين بالانسحاب منه والانتقال إلى أحزاب أخرى أكثر فعالية، كما في كل أنحاء العالم، ونعاقبه كقاعدة جماهيرية بالانقلاب عليه وحرمانه من الأصوات في الدورة التالية، وهكذا تسقط منفعية "غليص" المرحلية، ويصبح بعدها في حالة عوز دائم ومطلق لقاعدته الجماهيرية، قبل الانتخابات وبعدها.
يختال الشيخان، ويشعران بالاعتزاز بعدما أفاض غليص عليهما أفخم مفردات التمديح والتحميد.
لكن يظهر صباب القهوة فلاح ويسأل الشيخ غليص متعجبا: طال عمرك! تشاورهم!
يجيب غليص: إي يا فلاح، هذول كبارنا ورجالنا، لزوم أشوارهم وأسمع منهم.. وأساوي إلي براسي.
يختصر هذا المشهد الكثير عن ديمقراطيتنا، ويلخص لنا كيف يتسابق المترشحون سعيا لإرضاء الناخبين بشتى الوسائل والطرق والوعود، وعند وصولهم الكرسي يختفون ويفعلون ما برؤوسهم كحالة غليص، لذا علينا الانتقال من التشخيص إلى العلاج.
يعد مصطلح الأحزاب السياسية بمفهومه الحالي ظاهرة حديثة، فهو لم يكتسب معناه الذي نعرفه اليوم حتى منتصف القرن التاسع عشر، وإن كان قد أطل برأسه في ديمقراطية أثينا.
ليس للحزب السياسي تعريف جامع ومتفق عليه بل تتعدد تعريفاته وتتباين، لكنني أفضل تعريف الحزب السياسي القائل بأنه مجموعٌ يسعى إلى تأطير وتمثيل الشرائح المجتمعية ضمن برامج تُمكّن في النهاية من الوصول إلى السلطة.
إن بناء الدولة الديمقراطية المدنية يحتاج روافع أساسية قوامها احترام حقوق الإنسان ودعم حقوق الفرد الأساسية والسياسية والثقافية والاقتصادية أيًا كان دينه أو معتقده، وضمان حريات الأفراد والمجموعات وتعددهم وتنوعهم، وبناء المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية القائمة على مراقبة بعضها والفصل بين سلطاتها دون تغول أو إخلال، وصولا إلى أحزاب تتداول السلطة سلميا دون احتكار أو إقصاء، وهنا مربط الفرس.
فقد أكد جلالة الملك عبدالله الثاني سواء في أوراقه النقاشية أو في مقالاته أو في خطاباته المباشرة لشعبه الأردني، على ضرورة تفعيل الحياة الحزبية، بهدف الوصول إلى الأردن الحديث الذي تملكه الأجيال الشابة وتقوده حكومات حزبية منتخبة، متجاوزين مخاوف الماضي.
لدينا في الأردن إرث وتراكمات سياسية وأمنية تجعلنا حتى هذه اللحظة سجناء في متاهات الماضي، لكنها من الماضي، ولّت وعفى عليها الزمان وأكل، واليوم يَضمنها رأسُ الدولة بنفسه، والقانونُ بنصه، فلم يعد لدينا مبرر للعزوف عن ممارسة حقوقنا السياسية وتفعيل الحياة الحزبية من جديد.
لقد بدأت الحياة الحزبية عند الأردنيين عام 1919 أي قبل تأسيس الإمارة عام 1921، من خلال انضمام العديد منهم لحزب الاستقلال السوري، الذي شكّل له لاحقا فرعا في الإمارة، وشارك أعضاءٌ منه في أول حكومة أردنية برئاسة رشيد طليع عام 1921.
وقبل الوصول إلى عام 1989 وانتهاء حقبة الأحكام العرفية واستئناف الحياة الحزبية، فإن البلاد قد اختبرت حياة سياسية فاعلة ونشاطا حزبيا قويا ولافتا، من ظهور حزب الشعب الأردني عام 1927 إلى المؤتمر الوطني الأول، وحزب اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني، وأحزاب التضامن والإخاء وعصبة الشباب المثقف، وظهور الإخوان المسلمين، والأحزاب الشيوعية والاشتراكية والقومية والبعثية.
وكان البحث عن الهوية الوطنية الأردنية العروبية، ومقاومة الاستعمار البريطاني، وقضايا الأمة في فلسطين وسوريا، على رأس الأولويات التي ناضلت لأجلها الأحزاب الأردنية.
ومن نافلة القول أن الأحزاب هي الحامية والبانية للديمقراطية في كل دول العالم، وأننا نعيش في دولة لا ينقصها شيء لتفعيل حياتها السياسية والحزبية، فقد ضمنت لنا الدولة ممثلة بجلالة الملك ودستورها وقانونها، التنشئة السياسية التوعوية، وتسهيل عمل الأحزاب، وتوفير البيئة التي تشجع العمل الحزبي والمشاركة فيه، والآن يأتي دورنا على الصعيدين النخبوي والشعبي.
فالأحزاب لا تبنى من الأعلى إلى الأسفل، لذا على النخب القديمة أن تنهي حالة التشرذم الحزبي بالتحالف والتآلف والاندماج، انطلاقا من إنهاء حالة احتكارها للأحزاب، وتطوير الديمقراطية الداخلية للأحزاب، وإعادة تأهيل نفسها تنظيميا وبرامجيا على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، بما يُمكّن الحزب من التعبير عن هويته، وإفساح المجال لإنتاج قيادات تغييرية جديدة، تمتلك رؤية واضحة، وتقدر على مخاطبة الجماهير وتمثيل مصالحهم وطموحاتهم واتجاهاتهم، واستقطاب تلك الجماهير بعيدا عن الجهوية والقرابة والفزعة والمحسوبيات الفاسدة.
أما بالنسبة للناس غير الحزبيين، فأولا أسجل عتبي على كل من يعيش حالة العدمية والسخط والبؤس، ويحكم على مستقبلنا وتجربتنا الحزبية بالفشل حتى قبل أن نجربها!
فالاعتراض لأجل الاعتراض، يخدم كما قلت تلك الحالة النخبوية التي تسعى لتجميد الوضع القائم وإبقائه دون تغيير، خدمةً لمصالحها الضيقة الشخصية، فأي سكونٍ وصمت يعني البقاء مكاننا بل والتراجع إلى الوراء، ما أود قوله أن أي تجربة منظمة جادة تعني ضرب العشوائية بالصميم، والبدء بالسير على شعار "شلع قلع" العراقي، الذي يستفز ويخيف الوجوه التقليدية القديمة التي لا مصلحة لها بالإصلاح والتغيير.
إذا أردنا التغيير، فعلينا أن نشمر عن أذرعنا، وأن نتقدم للمنافسة وخوض الغمار السياسي، وطرح رؤيتنا وأولوياتنا وهمومنا، فلا يمكن أن نطلق حكما مسبقا دون امتلاكنا إرادة جادة وتجربة عملية وممارسة حقيقية.
أنا أعرف أن هناك مناخات سلبية عصفت بنا، وأن هناك حالة كبيرة من فقدان الثقة بالعملية السياسية، لكن هذا الإحباط لن يولد أفقا رحبا، فالانتخابات السابقة والتي قبلها لم تصل نسبة المشاركة فيها إلى ثلاثين في المئة، وهذا يعني أننا إن لم نجد من يمثلنا، فعلينا أن نمثل أنفسنا بأنفسنا كمواطنين فاعلين، وليس أن نقف متفرجين!
فالدورة المقبلة فيها 40% مقاعد مخصصة للحزبيين، والتي بعدها 50%، والتي بعدها 65%، إذًا فالقرار عندنا، إمّا أن نشكل أحزابا أو نصير حزبيين أو نشارك في الانتخابات على الأقل، وبعدها نحاكم تلك الأحزاب على أساس برامجي بحت.
فالحزب الذي يخفق ولا يفي أو يلتزم بوعوده وبرامجه، نعاقبه على صعيدين، كحزبيين بالانسحاب منه والانتقال إلى أحزاب أخرى أكثر فعالية، كما في كل أنحاء العالم، ونعاقبه كقاعدة جماهيرية بالانقلاب عليه وحرمانه من الأصوات في الدورة التالية، وهكذا تسقط منفعية "غليص" المرحلية، ويصبح بعدها في حالة عوز دائم ومطلق لقاعدته الجماهيرية، قبل الانتخابات وبعدها.