
الدكتور محمد عوض الزبيدي
الجامعة ليست مجرد مبنى يضم قاعات ومحاضرات، بل هي عقل الوطن وقلبه النابض بالمعرفة والإبداع؛ ومن هنا، فإن الحديث عن الجامعات الأردنية هو حديث عن مستقبل الأردن ذاته، عن أجيال تتطلع للعلم، وعن مجتمع يسعى إلى التقدم والرقي، فالجامعات هي مصنع العقول وورشة المستقبل، فيها تتشكل شخصية الطالب، ومنها يخرج إلى المجتمع مؤهلًا وقادرًا على حمل رسالة العلم والإبداع؛ إلا أنّ الجامعات الأردنية، التي نعتز بها ونفخر بإنجازاتها، لا تزال تعاني من مشكلات عميقة متجذرة تجعلنا نتوقف أمامها بروح المسؤولية الوطنية، وفي مقدمة تلك المشاكل كثرة التشريعات الناظمة لعملها، وتضخم صلاحيات رؤسائها الذين يملكون وحدهم سلطة التنسيب وحدهم بتعيين كبار القيادات الأكاديمية والإدارية، فيما يبقى دور مجلس التعليم العالي وهيئة الاعتماد ومجلس الامناء رقابيا لا يرقى إلى مستوى التأثير الفعلي .
وهنا يأتي دور السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه لماذا هذا التشظي التشريعي الذي جعل لكل جامعة قانونها الخاص وأنظمتها وتعليماتها الخاصة، فاليوم، نجد أن كل جامعة تُدار وفق منظومة معقدة من التعليمات والأنظمة والقوانين الخاصة، فوق القوانين العامة كقانون الجامعات الاردنية وقانون اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان جودتها وقانون التعليم العالي والبحث العلمي ، والانظمة والتعليمات التابعة لها ، لتتشابك خيوط التشريع حتى تغدو بيئة الجامعة أقرب إلى شبكة من التعقيدات. وهنا يطرح السؤال نفسه في الوقت الذي يجب أن نملك قانونًا واحدًا شاملًا للجامعات الرسمية كلها، قانونًا يرسم الإطار العام وأنظمة تطبق على جميع الجامعات ويوحّد المرجعية، ويزيل التناقضات .
أما الصلاحيات المطلقة التي تُمنح لرئيس الجامعة فهي وجه آخر للإشكالية ، إذ إن الرئيس اليوم يقرر وحده من يكون نائبًا، ومن يصبح عميدًا او نائبا للعميد ، ويشكل مجلس الجامعة وهيئة التعيين والترقية، ومن يتولى إدارة المراكز والمكاتب، لتغدو الجامعة أحيانًا مرتهنة لرؤية فردية قد لا تعكس المصلحة العامة أو الطموح الجماعي للعقل الأكاديمي، وقد يصح من يقول ان دور الرئيس يقتصر على التنسيب ، فهذا صحيح ، لكن الواقع ان الرئيس هو من يختار القيادات ، ولذلك نادر جدا ان يقوم مجالس الامناء ، بتفعيل نص المادة ( 10 / ج ) من قانون الجامعات ، والتي تنص ( ج – تقييم أداء الجامعة وقياداتها من الجوانب جميعها بما فيها الاكاديمية والادارية والمالية والبينة التحتية .... ) ، لذلك لابد من تقييم قيادات الجامعة من رئيس ونائب للرئيس وعمداء ومدراء المراكز والمديريات ، بموجب الية موضوعية وشفافة ، تكافئ من انجز وتحاسب المقصر ، لا ان تترك الاختيارات حسب الاهواء والمحسوبيات والمناطقية ، ولذلك لا يكفي أن نقول إن الرئيس يُقيَّم كل بضع سنوات، فالتقييم وحده لا يصنع عدالة، ولا يردع مقصرًا، ولا يمنع تغولًا في الصلاحيات؛ المطلوب نظام محاسبة حقيقي يجعل الرئيس والقيادات المختارة ، خاضعًة للمساءلة مثل أي مسؤول في الدولة، ، فإذا أحسن كان له التقدير والدعم، أما الرئيس الذي يقصر أو يسيء استخدام صلاحياته، فيجب أن يُحاسب بآليات واضحة وشفافة، تمامًا كما يُحاسب أي مسؤول عام ، حتى تحقق مقولة الزميل فيصل العيطان : ( ... القائد من يصنع قادة .... لا اتباع ... وهي صرخة في وجه كل من ظن ان القيادة تعني ان يسير الجميع خلفه صامتين ، والقائد الحق يشعل الشرارة في قلوب من حوله ، ليصبح كل منهم شعلة قادرة على اضاءة الطريق لغيره ، وهو من يفتح الابواب بدل ان يكون حارسا عليها ، ومن يرفع الاخرين حتى لو تجاوزوه ، لان العظمة الحقيقية لا تعرف الغيرة ...) .
إن الإصلاح الحقيقي في الجامعات الأردنية لا يبدأ من تغيير المباني أو تحديث المناهج فقط، بل من إعادة هندسة البنية التشريعية والإدارية على أسس مؤسسية لا فردية، حيث تُوزع الصلاحيات بين مجالس أكاديمية، وهيئات ، تحت سلطة مجلس التعليم العالي ومجلس الامناء كمرجعية فاعلة لا كجهات حاكمية استشارية صامتة، وحيث يكون القانون واحدًا مرنا لجميع الجامعات والمجالس والهيئات التعليمية العليا ، والأنظمة موحدة ، وحيث تكون المحاسبة فعلًا لا شعارًا وأن تكون محاسبة حقيقية يخشى المخطأ منها والمقصر والمهمل ، عندها فقط نستطيع القول إننا نمضي بجامعاتنا إلى المستقبل بثقة، ونبني بيئة تعليمية تعكس طموحات الوطن، ونصون حق الأجيال الجديدة في تعليم عادل وشفاف ومؤسسي ، حيث ان المحاسبة لا تعني الاعتداء على استقلالية ادارة الجامعات ، بل حتى لا تكون حجة للتقصير .