![الامير الحسن يكتب : دعوة لاتخاذ خطوات عملية: التمسك بالكرامة الإنسانية في عالم متغير](/assets/2025-02-17/images/394505_1_1739792234.jpg)
الامير الحسن بن طلال
في عصر يشهد تغيراً تكنولوجياً واجتماعياً وجيوسياسياً سريعاً، لم يسبق أن كانت المبادئ الأساسية للكرامة الإنسانية أكثر أهمية مما هي عليه الآن.
في عصرنا الذي يشهد تغيراً تكنولوجياً واجتماعياً وجيوسياسياً سريعاً، لم يسبق أن كانت المبادئ الأساسية للكرامة الإنسانية أكثر أهمية مما هي عليه الآن. ففي ظل ما يواجهه العالم من تحديات جديدة، بدءاً من اتساع نطاق عدم المساواة وصولاً إلى تآكل المعايير الديمقراطية، والتطبيق المنقوص للقانون الدولي، يجب أن تظل القيم والحقوق الطبيعية لكل فرد في المقدمة.
طوال عقود من الزمن، لعبت المنظمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، إلى جانب هيئات دولية مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) ومنظمات غير حكومية مثل ميرسي كور (Mercy Corps)، دوراً بالغ الأهمية في تقديم الخدمات الأساسية بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية والمساعدة الإغاثية الطارئة.
وتتولى الأونروا وحدها مسؤولية تقديم الخدمات الإنسانية الأساسية إلى 6.7 مليون لاجئ فلسطيني في أقاليم عملياتها الخمسة في جميع أنحاء المنطقة. كما قدمت جهات مانحة دولية أخرى -كل منها بصفتها الخاصة- مساعدات ضرورية وخدمات حيوية للسكان المستهدفين أيضاً، وبالتالي لعبت دوراً في تحقيق الاستقرار في المجتمعات المضيفة التي تعمل فيها.
واليوم، تجد هذه المنظمات نفسها على مفترق طرق بين تزايد التمحيص السياسي وحملات التضليل/التشويه الإعلامي، وخفض التمويل، وتعاظم عدم الاستقرار الإقليمي. ويثير القرار الأخير بتجميد التمويل والمساعدات التي تتلقاها بعض هذه المنظمات قلقاً بالغاً، مما يجعل مستقبل الجهود الإنسانية غير واضح المعالم.
سلطت دراسة استقصائية أجرتها الأمم المتحدة مؤخراً الضوء على العواقب البعيدة المدى لهذا التخفيض في التمويل، محذرة من حدوث اضطرابات كبيرة في وكالات الأمم المتحدة الرئيسية مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية واليونيسيف. إن نتائج هذا الاستطلاع مقلقة للغاية، سواء من الناحية الأخلاقية أو من المنظور الإنساني والتنموي. لقد التزم العالم من خلال الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بأجندة 2030 والتنفيذ الكامل لأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وعلى رأسها الهدف 17 الذي يؤكد على الشراكة.
في العام الماضي قدَّمت الولايات المتحدة، والتي لطالما كانت أكبر مانح منفرد للمساعدات على مستوى العالم، أكثر من 40% من ميزانية المساعدات الإنسانية للأمم المتحدة. فعلى سبيل المثال، قدمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أكثر من 600 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة منذ عام 2021. ويهدد تضاؤل الدعم المالي لهذه المؤسسات الحيوية بتعميق معاناة السكان الأكثر هشاشة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فإن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية نفسها تخضع أيضاً لتدقيق متزايد. وكما أكدت مؤخراً المديرة السابقة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية ساماثا باورز، فإن تسييس المساعدات يشكل تهديداً خطيراً للجهود الدبلوماسية والإنسانية بعيدة المدى، مما يقوض استقرار وفعالية برامج المساعدات العالمية.
وفي حالة مماثلة، فإن تفويض الأونروا بتوفير التعليم والرعاية الصحية والمساعدات الطارئة لأكثر من 6.7 مليون لاجئ فلسطيني اليوم، يؤكد على الأهمية الحيوية لمهمة الوكالة. وقد يؤدي العجز في التمويل إلى حرمان أكثر من 700,000 طفل فلسطيني من الحصول على التعليم وتعطيل خدمات الرعاية الصحية الأساسية لأكثر من 3 ملايين لاجئ يعتمدون على الأونروا في الرعاية الأولية.
يجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن عمل الأونروا هو شريان حياة وليس أداة سياسية، وأن استمرار عملها هو شهادة على تفاني العالم في صون الكرامة الإنسانية للفئات الأكثر هشاشة. إن المحافظة على قدرة الوكالة على العمل إنما هي استثمار في الاستقرار الإقليمي والعالمي وفي السلام وفي المستقبل، وإن ما تواجهه هذه المؤسسات الحيوية اليوم يقوض قدرتها على الوفاء بمهامها الأساسية. كما إن «استخدام المعونة كسلاح»، وتراجع التعاون الدولي بدلاً من حل النزاعات السياسية القائمة والكامنة يهددان بتفاقم معاناة السكان الأكثر هشاشة، في هذه الحقبة الجديدة التي تتم فيها إعادة صياغة أخلاقيات الحرب والسلام.
في ثمانينيات القرن الماضي، قاد الأردن الدعوة إلى تطبيق نظام إنساني دولي جديد (N.I.H.O). وانضم إلى هذه الدعوة 28 عضواً، من بينهم الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن، حيث وضعت هذه الدول صون كرامة كل إنسان وحقه في الحياة والأجيال القادمة على رأس أولوياتها.
إن مسؤولية الدفاع عن كرامة الإنسان لا تقع على عاتق صانعي السياسات والهيئات الدولية فقط. فالتربويون والقادة الدينيون والمجتمعيون والمواطنون المعنيون لهم جميعاً دورٌ يؤدونه. فمن خلال تعزيز قيم التعاطف والعدالة عند الأجيال القادمة، والاستفادة من السلطة الأخلاقية، واستنهاض العمل الجماعي، سوف يكون باستطاعتنا العمل من أجل عالم تسود فيه المبادئ الإنسانية على الانقسامات السياسية، ويتم فيه الحفاظ على جوهر الكرامة الإنسانية في جميع الأوقات.
إن حماية هذه المؤسسات الحيوية والمبادئ التي تجسدها ليست مجرد واجب أخلاقي فحسب، بل هي ضرورة ملحة للتعامل مع تعقيدات القرن الحادي والعشرين بمزيد من التعاطف والتعاون والإلتزام الثابت بالقانون الدولي والكرامة الإنسانية.
الرأي