
الزواج السنوي والطلاق التراكمي ...
تحرص دائرة قاضي القضاة على الأسرة بشكلها ومضمونها وعناصرها، بل تسعى لحمايتها، ودعم عناصرها لتستمر، وتجد في أدبيات الدائرة، الحرص على البناء والإستمرار لهذه الإسرة، في السماح بالزواج لتلك الحالات التي تثير سؤالا دائما عند المؤسسات الحقوقية والنسوية مثل زواج القصر. وهنا تبرز معضلة إجتماعية تحتاج حلا شرعيا، فهناك فئات في المجتمع لا تسعى للتعلم ولا تستطيع تحمل تبعاته، وهي منخرطة في نشاط يومي زراعي او رعاية حيوانات او غيره، وهنا تبرز معضلة عند الأهل، تحتاج إلى مثل هذه الحلول، فهؤلاء ابناء عمومة واقارب يعملون معا ويعيشون معا ويكبرون معا، ولذلك جاء زواج من هم وفوق السادسة عشر حلا شرعيا لهذه الفئة، وفق شروط دقيقة وتدريب وتوجيه مباشر من الدائرة وقضاتها. ولكن هل لهذه الفئة تدخل مباشر في رفع نسبة الطلاق؟
في الحقيقة النسبة الأعلى للطلاق تحدث في الفئة المثقفة للأسف، وهنا جاء رد سماحة القاضي على سؤال، بأن هناك خطأ في تداول النسبة، لأن النسبة تراكمية لكل حالات الزواج السابقة، وليست مرتبطة بعدد حالات الزواج للسنة المرتبطة بالنسبة. غريب الطلاق يحدث في فئة لا يجب ان يحدث فيها الطلاق وإن حدث لا يجب أن يحدث بهذه الطريقة لماذا؟
من أين تبدأ كل حياتنا وأحلامنا وأفكارنا وتصرفاتنا، هل عندما تتربى في بيت لا تستخدم فيه كلمة طلاق، ولا تهديد بالطلاق، ولا حلف بالطلاق، وعندما ترى الأنثى في بيت رسول الله صل الله عليه وسلم، مكرمة كرامة مطلقة، حتى وهي تغضب أحيانا وترفع الصوت في أخرى، وتتفق في ثالثة على العصيان، هناك تبدأ الحياة، حين يكبر الطفل وهو يرى والديه يختلفان، ولكن لا يفترقان، ولا يهين أحدهما الأخر ولا أصله ولا فصله ولا جنسه، نعم يرتفع الصوت أحيانا ويبتعدان احيانا، ولكنهما يعودان للتفاهم مع حفظ الكرامة، ولغة الخطاب الإخلاقية العالية. ولا تستخدم الإساءة المشاعر، ولا الطلاق، ولا الضرب وسيلة من وسائل التفاهم، ولا هدفا للغضب، بل يكون البيت وطنا وملجأ وسندأ، عندها هل تصنع القلوب على المحبة، وتكبر العقول على التفاهم. في هذا البيت الذي يدرك تماما معنى الميثاق الغليظ، وتصان فيه الكرامة، ولا يصبح الإختلاف، ولا الرأي، ولا الكلمة، ولا الموقف التعبيري، سببا في إنفجار غضب يدمر كل شيء.
إبدع سماحة قاضي القضاة عبد الحافظ الربطة حين قال " العدالة تبدأ من داخل الأسرة، ولا بد من بناء الإنسان، والأحكام القضائية تحدث شروخا دائمة، ولا بد من السعي للإصلاح، قبل الوصول إلى القضاء، لأن الرضى بين الطرفين مقدم على القضاء" ثلاثمائة وخمس وعشرون قاضيا، وألف واربعمائة موظف، وحوالي مائة وثلاثين الف قضية مع نسبة انجاز في القضايا تتجاوز التسعين في المائة، وتسعة آلاف حالة اصلاح أسري، وتسعين بالمائة من الخدمات تمت رقمنتها وأصبحت إلاكترونية، شفافية في التعامل، محاكم عليا في المناطق الرئيسية تتابع وتصوب وتحاسب، خدمات مالية حديثة، وتحويل مباشر للبنوك للتركات والنفقات، وسعى حثيث للتسهيل على المواطن في كل الخدمات الأخرى. ولكن لماذا هناك شكوى حثيثة ومريرة تسمعها من تلك الفئة التي تراجع المحاكم الشرعية؟
لم يخفي سماحته ولا رئيس المجلس القضائي الشرعي فضيلة كمال الصمادي الحقيقة، هناك قضايا تتعلق بالمحاكم والعنصر البشري فيها، ولكن هناك عناصر خارجية، سواء من الأطراف المتقاضية، والتي يسعى كل طرف فيها للتنكيد والتنكيل والنيل من الأخر عبر خلق مشكلة هنا واستغلال ظرف هناك، وهناك محامين يؤثر قرارهم ومصالحهم على سير عملية التقاضي، هنا هل تتذكر الأطراف المتقاضية تلك اللحظات التي كانت عامرة بالودّ والمحبة، فيحدث تسريح بإحسان، أم يؤخر الشرع وتقدم النفس ورغباتها؟
لماذا تصل الأمور إلى هذه المرحلة، ولماذا تكبر مشاعر الكراهية والغضب، فهذه كانت أمانة عندنا، نغلبها مرة وتغلبنا مرة، وتذكرت قول عمر رضي الله عنه عندما غضب من امرأته لما تراجعه، مثل نساء الإنصار، فقالت له امرأته ان أزواج النبي " صل الله عليه وسلم " يراجعنه ويهجرنه إلى الليل، وهنا هل نكون مثل عمر نقف عندما يخالف تصرفنا تصرف نبي الله " صل الله عليه وسلم".
ما أعظم ذلك البيت الذي تجد فيه المرأة مساحة للتعبير، والهجر، والغضب، دون ان تكسر أو تهدد. صح في الحديث" ما ضرب رسول الله " صل الله عليه وسلم "شيئا بيده، لا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد". أعجزنا عن الجهاد، فنضرب النساء. وإذا فسدت العلاقة ولم تعد قادرة على الإستمرار، لماذا نصل إلى تلك المرحلة، من تكسير كل شيء في حياة الأخر الذي قد يكون أبا أو أما لابنائنا. إذا أردنا أن نصلح بيوتنا اليوم، فعلينا أن نستحضر بيت النبوة ليس كصورة مثالية، بل كنموذج إنساني راق، تحترم فيه المشاعر، وتكرم المرأة، ويربى الأبناء على السكينة لا الخوف، والرفق لا العنف، والكلمة الطيبة لا الشتائم والتهدد، فلنعد إلى بيوتنا.. نعمرها بالحب والحياة والحضارة والأخلاق وحب الأخر، وكراهية التعالي والعنصرية والكذب والنفاق. هكذا نبني البيوت ونصنع الحضارة.
شكرا سماحة قاضي القضاة المحترم، شكرا فضيلة رئيس المجلس القضائي الشرعي، شكرا لكل القضاة والكادر الإداري والتقني والمالي، الذي يسعى بكل جدّ واجتهاد لخدمة الوطن والمواطن بكل حب وإخلاص.
إبراهيم أبو حويله ...