القلعة نيوز:
ينبهر الناس عمومًا بالذكاء والبداهة، لأنهم يعتقدون أن من يمتلكهما لديه فوارق كبيرة تميزه عن الآخرين، من حيث التمييز بين ما هو صحيح ومنطقي وبين ما هو خاطئ وغير منطقي، وبين ما يجب فعله وإجراؤه في الوقت المناسب، وما يجب تركه وتجاهله، وبين ما هو دقيق وما هو غير دقيق، وبالتالي التحليل والتفسير الدقيق والوصول إلى النتائج ذات المصداقية والجودة العالية، وهذا ما يؤكد أهميته ديفيد أوماند، المدير السابق لأعلى هيئة بريطانية تُعنى برصد المعلومات وجمعها المعروفة باسم "مقر الاتصالات الحكومية" في كتابه "تأمين الدولة" الذي يسعى من خلاله إلى تبيان أهمية المعلومات الاستخبارية في عالم اليوم المضطرب بطبيعته، والحاجة إلى تعزيز التواصل بين مختلف الأجهزة الاستخبارية، فضلا عن تناوله لقضية التوازن المطلوب بين ضرورات الأمن وحماية الدولة، وبين الحاجة إلى الحفاظ على الحريات العامة وعدم المساس بمكتسباتها، ويؤكد الكاتب في كتابه "تأمين الدولة" على أهمية تعزيز مبادئ وممارسات الذكاء الجيد، ويشير إلى الكيفية التي يتغير بها مفهوم الدولة والمجتمع الحديث بشكل جذري، ويذكر أن مجال الفضاء الإلكتروني وجميع المعلومات الفردية المحمية الموجودة فيه، إلى جانب ظاهرة الشبكات الاجتماعية في السنوات الماضية، كلها تهديدات وفي نفس الوقت أسلحة مفيدة في حماية مصالح الدولة، وقد تعود حاجة الأمير الحديث إلى تحقيق التوازن بين الحرية والأمن إلى مكيافيلي، لكن السياق الذي يجب أن يتم فيه تحقيق هذه التوازنات يتجاوز بكثير حتى تصورات مكيافيلي، فعلينا أن ننتقل، كما يقول ديفيد أوماند، من فكرة "الدولة السرية" التي لم تكن محل شك خلال الحرب الباردة إلى "الدولة الحامية"، بالإضافة إلى القيام بجميع أساسيات وظيفة الاستخبارات بمستوى أعلى من حيث إنشاء دوائر ثقة دائمة الاتساع، بدءًا من المتخصصين في الاستخبارات والأمن إلى جميع الوكالات الحكومية الأخرى ومجتمع السياسة والإعلام، ويعني ذلك استخدام المعلومات مفتوحة المصدر على نطاق أوسع بكثير، والاستعانة بالتحليل الخارجي بشكل أكثر منهجية، وفي المقام الأول، يتطلب الأمر المشاركة العامة في فهم وظيفة مجتمع الاستخبارات داخل الحكومة الحديثة الجيدة.
وهناك مفارقة يجدها المؤلف مثيرة للاهتمام، إن الكثير من الحياة اليومية وأنماط سلوكنا واضحة في معلوماتنا الشخصية المحمية ، وكلها محفوظة إلكترونيًا، وشبكتنا الاجتماعية تفتحنا أمام المزيد من التدقيق التفصيلي، وبالفعل تتعقب أجهزة التسويق جيل فيسبوك لتزويدهم بعروض فورية، وإذا كان للدولة إمكانية الوصول القانوني إليها، فيمكنها تحديد الأشخاص الذين يمثلون اهتمامًا حقيقيًا للأجهزة الأمنية وتكون أقل تدخلاً في حياة أي شخص آخر، هذه هي الصفقة الكبرى التي سيواجهها المجتمع الحديث، كما يقول ديفيد أوماند، وستكون بمثابة اختبار حقيقي لما نعنيه بـ "الحكومة الجيدة" التي تتضمن أجهزة استخبارات وأمنية فعالة، امنحونا إمكانية الوصول إلى حياتكم اليومية بروح من الثقة المتبادلة، ستقدمها الحكومة، ويمكننا أن نترك الغالبية العظمى منكم وشأنهم، وبالتالي نمنحكم مستويات أعلى من الأمن والحرية.
وبناءاً على ما سبق فالأمن بالنسبة للكاتب يبدأ بالاعتراف أولا بكونه حالة نفسية بقدر ما هو حالة موضوعية موجودة في الواقع، وفي الوقت الذي يتعين فيه على الحكومات جميعاً بذل قصارى جهدها لحماية المجتمع وإظهار ذلك للرأي العام المتوجس المتوتر، فإن عليها كذلك مصارحة الجمهور بحقيقة أن ليس كل التهديدات والأخطار يمكن درؤها دون التضييق ولو قليلا على القيم ذاتها التي تراد حمايتها، وهو ما يقود إلى استنتاجات هامة، أولاً: الحاجة إلى عملية تواصلية تتسم بقدر كبير من الصدق والشفافية دون المبالغة في تهويل الخطر وإظهار أبعاده لأن ذلك قد يأتي بنتائج عكسية، ويشير الكاتب إلى أهمية عدم استخدام عبارة "الحرب على الإرهاب" في الخطاب الإعلامي والسياسي لما تنطوي عليه من نبرة توحي باستمرارية انعدام الأمن، ومن ثم تسويغ بعض الممارسات مثل التعذيب وتعليق الحريات العامة، لتبرز، حاجة أخرى، وهي الاستنتاج الثاني، لعمل أجهزة الاستخبارات ضمن إطار قانوني واضح يحدد مسؤولياتها ولكن دون تقييد يدها، غير أن احتمال وقوع هجمات بين الفينة والأخرى وضرورة التعامل الأمني مع التهديدات مما يحتم في رأي الكاتب ما هو أكبر من العمل المؤسسي كما تجسده أجهزة الاستخبارات، بل يتعداها إلى ما يسميه "المناعة الوطنية" التي تعني قدرة المجتمع على التحمل واستئناف الحياة الطبيعية بعد كل هجوم دون الارتهان للحدث أو الخوف والارتباك.