
د. محمد عبد الحميد الرمامنه
الذي يرتدي قناع الالتزام في عالم اليوم المزدحم بالمسؤوليات والتحديات، يعيش الكثيرون منا في حالة من التوتر المستمر، غارقين في الأعمال اليومية التي لا تنتهي. كثيرون يتنقلون بين الأدوار الاجتماعية والمهنية، معتقدين أنهم يستطيعون تحمل المزيد والمزيد دون أن يشعروا بالضغوط التي تتراكم عليهم شيئًا فشيئًا، هؤلاء الأفراد يظنون أن التزامهم واهتمامهم بالواجبات يعكس قوتهم، لكنهم لا يعرفون أن هذا الالتزام يمكن أن يكون القناع الذي يرتديهم الاحتراق النفسي.
الاحتراق النفسي لا يظهر فجأة، بل يتسلل إلى حياتنا بهدوء، يبدأ بمشاعر ضبابية من الإرهاق، ثم يتطور إلى شعور مستمر بعدم الرضا، حتى يصل إلى فقدان كامل للمتعة في الأنشطة التي كانت في السابق تثير الحماس، في البداية، يبدو أن كل شيء تحت السيطرة، يمكن للمرء أن ينجز المهام بكفاءة، يحافظ على واجباته، ويظهر أمام الآخرين وكأنه لا يتأثر بالتحديات. لكن وراء هذه الصورة المثالية، يكمن الاحتراق النفسي الذي يضعف الأفراد دون أن يشعروا.
من بين الأسباب الرئيسية للاحتراق النفسي هو الضغط المفرط والتوقعات العالية، سواء من الذات أو من الآخرين، إن السعي المستمر لتحقيق الكمال وتحقيق الأهداف يتسبب في شعور دائم بالإجهاد والقلق. مع مرور الوقت، يبدأ الشخص في تحمل أعباء إضافية، سواء كانت في العمل أو في الحياة الشخصية، ما يخلق شعورًا بالعجز وعدم القدرة على الموازنة بين مختلف الجوانب، أيضًا، تلعب الانعزالية الاجتماعية دورًا مهمًا، حيث يصبح الشخص مع الوقت منعزلًا عن محيطه الاجتماعي بسبب الانشغال المستمر في العمل، ما يسبب شعورًا بالعزلة النفسية. بالإضافة إلى ذلك، اختلال التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية يؤدي إلى تداخل المهام والأوقات، ما يجعل الشخص عاجزًا عن تخصيص وقت للاسترخاء أو التفاعل مع الآخرين، مما يفاقم الشعور بالضغط المستمر.
إضافة إلى ذلك، تلعب الظروف البيئية والنفسية دورًا في تحفيز الاحتراق النفسي. العوامل مثل بيئة العمل السامة، العلاقات المشحونة بالتوتر، والظروف الحياتية الصعبة، قد تؤدي إلى تراكم الضغوط على الفرد بشكل مستمر، مما يجعل من الصعب عليه الخروج من هذه الدائرة المغلقة من الإرهاق.
ورغم أن الحلول التقليدية مثل الاسترخاء والتنفس العميق قد تكون مفيدة في لحظات قصيرة، إلا أن الحقيقة الأكثر إيلامًا هي أن هذه الأساليب لا تكفي لحل المشكلة بشكل جذري، قد يستفيد البعض من تعديل تفكيرهم، وتعلم كيفية تحديد الأولويات بواقعية، والابتعاد عن المثالية التي تؤدي إلى التوتر المستمر، معالجة الاحتراق النفسي تتطلب وعيًا أعمق بتحديات الحياة اليومية، والتعرف على اللحظات التي يمكن أن يتوقف فيها الإنسان لتقويم نفسه.
إن الاعتراف بوجود الاحتراق النفسي ليس دليل ضعف، بل هو خطوة نحو الفهم العميق لاحتياجات الذات، إذا تمكنا من تمييز هذا العدو المقنع، وواجهناه بتغيير في طريقة تفكيرنا وتنظيم وقتنا، فإننا نستطيع أن نعيد الحياة إلى مسارها الصحيح، وأن نعيش بأفضل صورة ممكنة دون الوقوع في فخ الانهيار النفسي.