
حسين الرواشدة
ما فعلته بعض التيارات السياسية في بلدنا ،على امتداد العقود الماضية، وما تفعله بقايا فلولها الآن ، يشبه -تماما - ما فعلت حركة "الشعوبية " التي ازدهرت إبان الدولة العباسية ؛ لكي نفهم أكثر ، استندت هذه الحركة إلى فكرة "التسوية" بين العرب وغيرهم من الأعراق والعجم، ثم تحولت إلى ذم الجنس العربي والانتقاص منه ، كان موضوع الهوية حاضراً في المشهد ، كما كان الصراع على الدولة وفي داخلها حاضراً أيضاً.
أترك للقارئ الكريم مهمة البحث في التاريخ ليطلع أكثر على نشأة" الشعوبيين " ورواياتهم ، ومحاولات تسللهم إلى عصب الدولة ومفاصلها، ثم إخضاعها لأهدافهم ، أكيد سيتفاجأ القارىء بأسماء عديدة ومعروفة لمفكرين وشعراء شاركوا في هذه الحركة ؛ بعضهم باسم الدين أو الزندقة ، وبعضهم اختبأ تحت عباءة السلطة وتبرطع في غنائمها وخيراتها ، ولم يتردد عن دسّ السم لها من داخلها ، المهم في المسألة أن هؤلاء الخليط التقوا على هدف واحد وهو تقويض الدولة والتشكيك بشرعيتها وتاريخها، وتشويه هويتها والانتقاص من إنجازاتها ، وتحميلها مسؤولية ما حلّ من خراب بالأمة.
ما حدث في بلدنا ، وربما في العديد من أقطارنا العربية ، أن تيارات " شعوبية" توزعت بين القومية والأيدولوجيا الدينية ، وظّفت قضايا عابرة للحدود ، واستنجدت بنماذج أممية أو إقليمية ، ثم تعمدت خلط الأوراق ، فهي تارة تتحدث باسم الأمة ، وتارة باسم العروبة ، وثالثة باسم فلسطين، ورابعة باسم أنظمة الممانعة والصمود، تربط رمزيتها بزعامات تاريخية أو أنظمة تختلف في منطلقاتها ، لكنها تتوحد على خطاب واحد ، مرتكزاته: عدم الاعتراف بالدولة القطرية التي تنتسب اليها او تعيش فيها ، بذريعة سايكس بيكو ، عدم الانضواء تحت الهوية الوطنية، الإساءة للشخصية الوطنية وتجريحها وذم تاريخها والتشكيك فيه.
بصراحة أكثر ، أي إستدارة للداخل الأردني لا تأخذ بعين الاعتبار تجفيف ينابيع " الشعوبية" وكشف طبقة الشعوبيين، ودحض الأساطير التي استندوا إليها لترويج بضائعهم ، سواء فيما يتعلق بالتاريخ أو الثقافة ، الدين أو السياسة ، ستبقى إستدارة ناقصة أو سطحية، الحملة التي شهدناها ضد بلدنا ، خلال الأشهر المنصرفة ، منذ الحرب على غزة إلى الحرب على إيران ، تؤكد ما قلناه سلفا، لقد استبسل " الشعوبيون " واستنفروا واحتشدوا لتشويه اي موقف وطني، وضرب اي إنجاز للدولة، هؤلاء لا يتحركون إلا في سياق واحد، وهو سياق الهدم لكل ما يتعارض مع أجنداتهم المغشوشة ،
الدولة الأردنية تستند إلى شرعية دينية وتاريخية وإنسانية، والأردنيون أصلاء لهم هوية وطنية واحدة ، لا يمكن لأحد أن يعزلهم عن امتهم وقضاياها، ولا عن محيطهم الإنساني ولا عن عروبتهم، وفي موازاة ذلك لا يمكن لأحد أن يلحقهم بغيرهم، أو يذيبهم ، أو يحملهم مسؤولية الخيبات والهزائم التي أصابت الأمة كلها.
الآن ، يبدو أن موجة " الشعوبية" في بلدنا تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وبالتالي أصبح أمام الدولة، وأمام الأردنيين الذين يؤمنون ببلدهم وتاريخهم وإنجازاتهم وشرعية قيادتهم، فرصة كبيرة للتحرر من هذه الأفكار السامة، وأعاده الاعتبار إلى منطق الدولة الوطنية/ دولتهم ، التي لا يمكن ان تخضع لشروط "الشعوبيين" وأهدافهم، تماما كما فعل العباسيون قبل نحو 1275 عام.