
جمعة الشوابكة
في عالمٍ يعجّ بالصراعات ويتغيّر فيه ميزان القوى بين ليلةٍ وضحاها، تبرز الدبلوماسية الأردنية كمدرسةٍ واقعيةٍ في فنّ إدارة الممكن، تُدار فيها أعقد الملفات بلغة العقل والمصلحة لا بلغة الانفعال والغرور. لقد أثبت الأردن، بقيادته الهاشمية، أن القوة لا تُقاس بعدد الجيوش أو بحجم الأرض، بل بوزن الموقف وثبات الكلمة، وأن الحضور السياسي الحقيقي هو ذاك الذي يصنع التأثير دون أن يُحدث ضجيجًا.
الدبلوماسية: فنّ ترويض المستحيل
الدبلوماسية في جوهرها ليست نقيضًا للحرب، بل استمرارٌ لها بوسائل أخرى. فالتاريخ السياسي المعاصر يبرهن أن الصراعات الكبرى لا تنتهي بانتصارٍ مطلق، بل باتفاقاتٍ مؤقتة تُبقي جذوة المصالح مشتعلة تحت رماد الهدوء. ومن هنا تولد الدبلوماسية بوصفها "فنّ الممكن" — فنّ التوفيق بين المتناقضات وترويض المستحيل. هذه المرونة هي التي تُحوّل أعداء الأمس إلى شركاء، وأصدقاء اليوم إلى خصوم الغد، وتمنح الدول قدرةً على البقاء وسط اضطراب العالم.
لقد أكدت التجارب التاريخية أن السياسة الدولية لا تعرف الثوابت المطلقة. فالولايات المتحدة التي قصفت اليابان بالقنبلة الذرية جعلت منها لاحقًا حليفًا استراتيجيًا. وألمانيا التي خاضت حربين ضد فرنسا أصبحت معها اليوم ركيزة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. أما تركيا التي كانت خصمًا لأوروبا بالأمس، فهي اليوم ثاني أقوى دولة في الناتو بعد الولايات المتحدة. هذه التحولات لا تصنعها الصدفة، بل حكمة قراءة اللحظة وإدراك أن المصالح، لا الذكريات، هي ما يحكم العلاقات بين الدول.
مدرسة الاعتدال الهاشمي
من هنا، يبرز النهج الأردني في التعاطي مع السياسة الإقليمية والدولية بوصفه أحد أكثر النماذج نضجًا في المنطقة. فمنذ عهد الهاشميين، اختار الأردن طريق الاعتدال في القول والحزم في الهدف، فكانت النتيجة استقرارًا داخليًا متينًا وسط عواصفٍ هزّت كياناتٍ أكبر. لم ينجرف الأردن إلى سياسة المحاور أو الانفعالات، بل التزم خطابًا عاقلًا يُوازن بين المبدأ والمصلحة. لقد أدركت القيادة الهاشمية أن اللين في الأسلوب لا يعني الضعف، وأن الحزم في المبدأ هو سرّ البقاء، فصاغت مدرسةً في الاتزان السياسي أصبحت اليوم مثالًا يُحتذى.
ولأن الجغرافيا تفرض أحيانًا قدرها السياسي، عرف الأردن كيف يجعل من موقعه نقطةَ توازنٍ لا ساحةَ صراع. فبين الشرق والغرب، وبين العالمين العربي والدولي، انتهج سياسة "صفر مشاكل" لا كتكتيكٍ مرحلي بل كخيار استراتيجي للبقاء. هذه السياسة تعني الانفتاح دون التفريط، والتحالف دون الارتهان، والانخراط الذكي في التحالفات بما يحفظ الاستقلال الوطني. فالأردن لا يسعى إلى الحياد السلبي، بل إلى المشاركة الواعية التي تضمن مكانه بين الكبار دون أن يُفقده هويته أو قراره.
القوة الهادئة ووزن الكلمة
هذا الاتزان تجسّد عمليًا في الدور الإنساني والسياسي الذي قادته المملكة خلال الأزمات الإقليمية الأخيرة. ففي وقتٍ انشغلت فيه القوى الإقليمية بالمناكفات والمزايدات، كانت الدبلوماسية الأردنية تُمارس فعلها على الأرض: قيادة الجسور الإنسانية، والدفع باتجاه التهدئة، والتنسيق مع العواصم الكبرى لاحتواء التصعيد. لقد تحوّل الأردن من متلقٍ لتداعيات الأزمات إلى صانعٍ لتوازناتها، رافعًا راية "القوة الهادئة" التي تُفضّل الفعل على الخطابة.
ويستمد هذا النهج قوته من الشرعية الهاشمية، التي لم تكن يومًا شعارًا رمزيًا، بل عمود ارتكازٍ يمنح الدبلوماسية الأردنية شرعيةً دينية وتاريخية وسياسية فريدة. فالوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس ليست مجرد إرث تاريخي، بل مسؤولية سياسية وأداة دبلوماسية تُستخدم بحكمةٍ لحماية الثوابت الوطنية والقومية، وإبقاء الأردن في موقع اللاعب المحوري في قضية العرب الأولى.
في زمنٍ تتبدّل فيه التحالفات كما تتبدّل الفصول، يبقى الأردن ثابتًا على بوصلة واحدة: الاعتدال. لا يُهادن على حساب الثوابت، ولا يُصعّد بحثًا عن دورٍ عابر. إنه يمارس دبلوماسيته كما يمارس الجراح مهنته: بدقةٍ هادئة، ووعيٍ بالمخاطر، وثقةٍ بالنتائج. فالدبلوماسية الأردنية ليست ردّ فعلٍ آنٍ، بل مشروع دولةٍ تشكّل عبر التجربة وصقلته الأزمات.
واليوم، في خضم التحديات المتشابكة، يُثبت الأردن مجددًا أن صوته الهادئ يمكن أن يكون أكثر وقعًا من ضجيج المدافع. فالقوة لا تُقاس بحدة الصوت، بل بعمق الأثر. وهكذا، تواصل الدبلوماسية الأردنية، بقيادتها الهاشمية، رسم ملامح مدرسةٍ فريدة في السياسة العربية — مدرسةٍ تُعلّم أن البقاء ليس صدفة، وأن الاعتدال ليس ضعفًا، بل فنّ الممكن في زمن المستحيل.