ماجد كيالي
القلعة نيوز-بدا مشهد اقتحام الجيش الإسرائيلي مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين شمال الضفة الغربية، واجتياحه بدباباته ومدرعاته وجرافاته وجنوده المدججين بالسلاح، واستباحته طوال يومين كاملين، بمثابة استعادة، أو محاكاة حية لمشهد النكبة الفلسطينية (1948)، التي نجمت عنها إقامة إسرائيل، وتشريد الشعب الفلسطيني من وطنه، لا سيما مع تعمد تدمير مئات البيوت في هذا المخيم، وتجريف أحياء كاملة فيه، وتدمير بناه التحتية، وتخريب ممتلكات سكانه، مع تشريد ألوف منهم، بطريقة مروعة، وسط أصوات القصف ودخان القذائف والحرائق، وقتل العشرات أو جرحهم أو اعتقالهم.
ثمة دلالات عديدة لهذه الهجمة الإسرائيلية الهمجية على مخيم جنين، علماً أن مساحته 6 كيلومترات مربعة، وعدد سكانه 15 ألفاً، لعل أهمها:
أولاً، اعتبار سكان هذا المخيم هم من اللاجئين الفلسطينيين الذين اقتلعوا من بيوتهم في حيفا ويافا وعكا والجليل واللد والرملة، منذ حدث النكبة قبل 75 عاماً، بمعنى أنهم يمثلون الحكاية الفلسطينية كلها، من أساسها؛ ما يفيد بأن الهدف المضمر من هذه الحملة هو وأد الحكاية الأصلية الفلسطينية، التي تستعصي على النسيان، لا سيما بوجود مخيمات للاجئين، في هذا المكان أو ذاك، بدليل أن هذا المخيم ظل يتعرض لاقتحامات متكررة من قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ثانياً، إثبات مخيم جنين تميّزه كبؤرة كفاحية للفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، منذ احتلالها باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة وغزة) في حرب حزيران (يونيو) 1967. وفي ذلك فإن إسرائيل تحاول من خلال البطش بالمخيم قتل فكرة المقاومة، ورفع ثمنها، بانتهاجها سياسة العقاب الجماعي إزاء سكانه، باستهداف البشر والشجر والحجر فيه، بطريقة متوحشة.
وفي الحقيقة، فإن المكانة الرمزية لمخيم جنين تحققت إبان الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، إذ رغم حصار القوات الإسرائيلية له في نيسان (أبريل) 2002، واقتحامه بالدبابات والجرافات وبالوحدات الخاصة، استطاع المقاتلون الفلسطينيون فيه تكبيد تلك القوات خسائر فادحة، تمثلت بقتل 23 جندياً وضابطاً، فيما لقي 56 منهم مصرعهم، في مواجهة بطولية وصعبة استمرت لعشرة أيام، إلى درجة أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أطلق على المخيم بعد تلك المعركة اسم "جنين غراد".
ثالثاً، توخّت إسرائيل في تلك العملية بعث رسالة إلى الفلسطينيين، وإلى قيادتهم تحديداً، مفادها أن لا وجود لكيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية، خارج السيطرة الإسرائيلية، وإن كل ما تتيحه لهم هو مجرد كيان حكم ذاتي إداري محدود. ولعل هذا ما صرح به بنيامين نتنياهو بذاته، أخيراً، مع تأكيده أن مصلحة إسرائيل تكمن فقط في وجود سلطة تقوم بالنيابة عنها بالسيطرة على الفلسطينيين وإدارة أوضاعهم، لا أكثر من ذلك.
رابعاً، أيضاً حاولت إسرائيل في استباحتها المخيم، تأكيد إصرارها على استمرار الاحتلال، واعتبارها أن فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، هي منطقة تحت السيادة الإسرائيلية، يحق للمستوطنين إقامة مستوطناتهم فيها، في أي مكان، مع إطلاق أيديهم في البطش بالفلسطينيين والاعتداء على ممتلكاتهم، كما حدث في الشيخ جراح في القدس وفي حوارة قرب نابلس وفي ترمسعيا قرب رام الله، وهذا الأمر بات في صميم التوجهات التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة اليمين القومي والديني المتطرف، برئاسة بنيامين نتنياهو والوزيرين سموتريتش وبن غفير.
الجدير ذكره أن اسم مخيم جنين عاد إلى البروز مجدداً، في العامين الماضيين، مع ظهور جماعات مسلحة داخله، أهمها "كتيبة جنين" التي تضم عناصر من تنظيمات متعددة، كـ"كتائب الأقصى" المحسوبة على حركة "فتح"، ولعل زكريا الزبيدي (معتقل حالياً) هو من أهم رموزها منذ الانتفاضة الثانية، كما تضم تلك الكتيبة عناصر محسوبة على حركتي "الجهاد الإسلامي" و"حماس" وأفراداً لا ينتمون إلى أي فصيل (ومثلها كتيبة "عرين الأسود" في نابلس مثلاً).
وفي هذا الوضع باتت مدينة جنين ومخيمها وقراها أحد الأهداف الأساسية لعملية "كاسر الأمواج" التي أعلنتها إسرائيل قبل عام (نيسان/أبريل، 2022) لفرض سياساتها على الفلسطينيين، بعد سلسلة عمليات فدائية لفلسطينيين أفراد مستقلين عن الفصائل، أتت رداً على انغلاق الأفق السياسي، وتعنت حكومات إسرائيل، واعتداءات المستوطنين
على المدنيين الفلسطينيين في بيوتهم وممتلكاتهم ومزارعهم، مع انتهاج إسرائيل سياسة العقاب الجماعي بهدم البيوت ومصادرة الأراضي واستهداف النشطاء بالقتل والاعتقال.
هكذا، مثلاً، أتت العملية التي قام بها الشاب رعد حازم (مواليد 1993)، من مخيم جنين، في شارع ديزنغوف وسط تل أبيب (نيسان/أبريل/2022)، والتي نجم عنها قتل إسرائيليين وجرح آخرين. وعلى مشارف مخيم جنين، وإبان محاصرة واقتحام قوات إسرائيلية المخيم قتلت الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة (11 أيار/مايو)، برصاصة قناص إسرائيلي، وتحولت جنازتها إلى ساحة صراع بين المشيعين وقوات الأمن الإسرائيلية في القدس. وفي أيلول (سبتمبر 2022) قتلت القوات الإسرائيلية أربعة من سكان المخيم لدى اقتحامه، وفي مطلع هذا العام قتلت 9 فلسطينيين (يوم 26/1/2023).
في كل ذلك بات مخيم جنين، كشاهد على النكبة وكشهيد، بمثابة أيقونة نضالية، وقوة معنوية للفلسطينيين، في صمودهم، وكفاحهم المديد والعنيد، إذ الاحتلال والاضطهاد هما اللذان يغذيان مقاومة الفلسطينيين، رغم ضعف إمكاناتهم، ورغم ظروفهم الصعبة والمعقدة.
النهار العربي.
ثمة دلالات عديدة لهذه الهجمة الإسرائيلية الهمجية على مخيم جنين، علماً أن مساحته 6 كيلومترات مربعة، وعدد سكانه 15 ألفاً، لعل أهمها:
أولاً، اعتبار سكان هذا المخيم هم من اللاجئين الفلسطينيين الذين اقتلعوا من بيوتهم في حيفا ويافا وعكا والجليل واللد والرملة، منذ حدث النكبة قبل 75 عاماً، بمعنى أنهم يمثلون الحكاية الفلسطينية كلها، من أساسها؛ ما يفيد بأن الهدف المضمر من هذه الحملة هو وأد الحكاية الأصلية الفلسطينية، التي تستعصي على النسيان، لا سيما بوجود مخيمات للاجئين، في هذا المكان أو ذاك، بدليل أن هذا المخيم ظل يتعرض لاقتحامات متكررة من قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ثانياً، إثبات مخيم جنين تميّزه كبؤرة كفاحية للفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، منذ احتلالها باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة وغزة) في حرب حزيران (يونيو) 1967. وفي ذلك فإن إسرائيل تحاول من خلال البطش بالمخيم قتل فكرة المقاومة، ورفع ثمنها، بانتهاجها سياسة العقاب الجماعي إزاء سكانه، باستهداف البشر والشجر والحجر فيه، بطريقة متوحشة.
وفي الحقيقة، فإن المكانة الرمزية لمخيم جنين تحققت إبان الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، إذ رغم حصار القوات الإسرائيلية له في نيسان (أبريل) 2002، واقتحامه بالدبابات والجرافات وبالوحدات الخاصة، استطاع المقاتلون الفلسطينيون فيه تكبيد تلك القوات خسائر فادحة، تمثلت بقتل 23 جندياً وضابطاً، فيما لقي 56 منهم مصرعهم، في مواجهة بطولية وصعبة استمرت لعشرة أيام، إلى درجة أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أطلق على المخيم بعد تلك المعركة اسم "جنين غراد".
ثالثاً، توخّت إسرائيل في تلك العملية بعث رسالة إلى الفلسطينيين، وإلى قيادتهم تحديداً، مفادها أن لا وجود لكيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية، خارج السيطرة الإسرائيلية، وإن كل ما تتيحه لهم هو مجرد كيان حكم ذاتي إداري محدود. ولعل هذا ما صرح به بنيامين نتنياهو بذاته، أخيراً، مع تأكيده أن مصلحة إسرائيل تكمن فقط في وجود سلطة تقوم بالنيابة عنها بالسيطرة على الفلسطينيين وإدارة أوضاعهم، لا أكثر من ذلك.
رابعاً، أيضاً حاولت إسرائيل في استباحتها المخيم، تأكيد إصرارها على استمرار الاحتلال، واعتبارها أن فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، هي منطقة تحت السيادة الإسرائيلية، يحق للمستوطنين إقامة مستوطناتهم فيها، في أي مكان، مع إطلاق أيديهم في البطش بالفلسطينيين والاعتداء على ممتلكاتهم، كما حدث في الشيخ جراح في القدس وفي حوارة قرب نابلس وفي ترمسعيا قرب رام الله، وهذا الأمر بات في صميم التوجهات التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة اليمين القومي والديني المتطرف، برئاسة بنيامين نتنياهو والوزيرين سموتريتش وبن غفير.
الجدير ذكره أن اسم مخيم جنين عاد إلى البروز مجدداً، في العامين الماضيين، مع ظهور جماعات مسلحة داخله، أهمها "كتيبة جنين" التي تضم عناصر من تنظيمات متعددة، كـ"كتائب الأقصى" المحسوبة على حركة "فتح"، ولعل زكريا الزبيدي (معتقل حالياً) هو من أهم رموزها منذ الانتفاضة الثانية، كما تضم تلك الكتيبة عناصر محسوبة على حركتي "الجهاد الإسلامي" و"حماس" وأفراداً لا ينتمون إلى أي فصيل (ومثلها كتيبة "عرين الأسود" في نابلس مثلاً).
وفي هذا الوضع باتت مدينة جنين ومخيمها وقراها أحد الأهداف الأساسية لعملية "كاسر الأمواج" التي أعلنتها إسرائيل قبل عام (نيسان/أبريل، 2022) لفرض سياساتها على الفلسطينيين، بعد سلسلة عمليات فدائية لفلسطينيين أفراد مستقلين عن الفصائل، أتت رداً على انغلاق الأفق السياسي، وتعنت حكومات إسرائيل، واعتداءات المستوطنين
على المدنيين الفلسطينيين في بيوتهم وممتلكاتهم ومزارعهم، مع انتهاج إسرائيل سياسة العقاب الجماعي بهدم البيوت ومصادرة الأراضي واستهداف النشطاء بالقتل والاعتقال.
هكذا، مثلاً، أتت العملية التي قام بها الشاب رعد حازم (مواليد 1993)، من مخيم جنين، في شارع ديزنغوف وسط تل أبيب (نيسان/أبريل/2022)، والتي نجم عنها قتل إسرائيليين وجرح آخرين. وعلى مشارف مخيم جنين، وإبان محاصرة واقتحام قوات إسرائيلية المخيم قتلت الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة (11 أيار/مايو)، برصاصة قناص إسرائيلي، وتحولت جنازتها إلى ساحة صراع بين المشيعين وقوات الأمن الإسرائيلية في القدس. وفي أيلول (سبتمبر 2022) قتلت القوات الإسرائيلية أربعة من سكان المخيم لدى اقتحامه، وفي مطلع هذا العام قتلت 9 فلسطينيين (يوم 26/1/2023).
في كل ذلك بات مخيم جنين، كشاهد على النكبة وكشهيد، بمثابة أيقونة نضالية، وقوة معنوية للفلسطينيين، في صمودهم، وكفاحهم المديد والعنيد، إذ الاحتلال والاضطهاد هما اللذان يغذيان مقاومة الفلسطينيين، رغم ضعف إمكاناتهم، ورغم ظروفهم الصعبة والمعقدة.
النهار العربي.