القلعة نيوز: احتكر كل من وصفي التل الفلسطيني وطاهر المصري الاردني كرؤساء وزارات، تقدير ومعزة وذاكرة غالبية الشعب الاردني بكافة اطيافه. بل ان الحب والتكريم لهما لا يزال يتعمق اكثر فأكثر، كلما بانت عورات الحكومات اعمق فاعمق. فمما لا شك فيه انه لم يستطع، وربما لم يحاول، اي ممن تقلدوا موقع رئيس الوزراء في الاردن منذ انشاء الكيان الاردني، صعود سلم الوطنية للوصول الى المقام المحمود الذي ارتقاه وصفي التل اولا ثم طاهر المصري ثانيا. السبب، أن كلا الرجلين تطهرا من أدران الاقليمية، ومن الفساد بأنواعه، ومن الجبن الذليل والولاء الاعمى، ومن النفاق الملازم للاندلاق على المنصب بأي ثمن. والاهم، ان كليهما وضع لنفسه ثوابت، تشبث بها، واحتضنها بجناحيه رغم العواصف والتيارات المعاكسة، كما احتضن جعفر الطيار علم الدعوة التي خرج منافحا عن كرامتها. إضافة إلى ان كلا الرجلين قد حرص على وضع إشارات التحذير من الأخطار على مسارات الحافلة الأردنية الرسمية، حتى لا تنحرف يمينا ولا يسارا، وكي لا تنزلق الى قعر الوادي.
من جهته، حاول وصفي التل فيما اوتي له من وقت، ان يمأسس البنيان الإداري، ونموذج الاقتصاد الاردني ، بكل حرص ومثابرة واستشراف للمستقبل. ولهذا، يدين الاردن لعهده بالكثير من الإنجازات التي من بين ابرزها الغطاء الاخضر الذي اكتست به مساحات شاسعة من الاراضي الجرداء. كما يتذكر الاردنيون فترة الامن والامان للجميع، لانه فرض سيادة القانون على الجميع إبتداءا بنفسه.
أما على الصعيد السياسي، فقد نجح وصفي التل بادارة تنفيذ حملة اخراج المجموعات الارهابية من الاردن بكل "كفاءة وفاعلية". كان المحرك لوصفي التل، ليس مصير الاردن اولا، وانما مصير فلسطين التي احب اولا. فالاردن كان لا يزال كيانا سياسيا قائما ومعترفا به، وله جيش يحميه، وكان يؤمن بأن الحفاظ عليه يتطلب إنقاذ الشعب الفلسطيني من نفسه ولنفسه. لقد استغلت الجماعات التي بدت في البدايات، انها وطنية، حب الجماهير الذين فرشوا طرقها بقلوب حانية متضرعة، في اوج مرحلة الانكسار العربي التي أنتجتها الانظمة العسكرية الاستبدادية، افظع استغلال. لقد اختطفت تلك الجماعات الهشة، التي زرعت بالشعارات المتناقضة من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، ارادة الشعب الفلسطيني، وقامت ببيعها في اسواق المزايدة الاقليمية والدولية، ولاضفاء الشرعية على الانظمة الخائبة المهزومة اليائسة. اذ تبنت بعض الدول الاقليمية والعالمية جماعات من الجماعات القائمة، وبعضها الآخر اصطنع لنفسه مجموعته الخاصة. ثم تم تمويل وتسليح تلك المجموعات لا لتحارب اسرائيل، وانما للقيام بحروب بالوكالة بين انظمة تتنافس على الاستبداد والتخلف والتخاذل والعمالة وعلى بيع فلسطين. وهكذا تحول الاردن الى ساحة للارهاب.
كان الشعب الفلسطيني ومعه بقية الشعوب العربية تتوق الى مقاومة متميزة اخلاقيا ونضاليا، مقاومة تستطيع ان تثبت نفسها كبديل نظيف وفعال، للانظمةالقمعية المهزومة. بديل تزحف اليه القلوب والعقول ثم السواعد. بديل يحرج الأنظمة، ويجرها من أنوفها، إلى مواجهة حقيقية تخرج اسرائيل، أو تخرج الأنظمة من واقع احتلال الارض العربية والإرادة العربية. عندما فعل وصفي ما فعل، فإنه كان يراهن على خزائن الحكمة والشجاعة والتضحية والوطنية وبعد النظر لدى الشعب الفلسطيني، ولتمكينه من تقييم بدائل النضال الممكنة واختيار ما يشاء منها، والاستعداد للتنفيذ.
تمكن وصفي التل باحباطه لادوار المجموعات الفوضوية من لجم جنوح الغضب وردات الفعل الانفعالية على الارض الاردنية مخيبا امال من خطط لكسر اواصر التواصل والتعاضد والشراكة بين الشعبين الاردني والفلسطيني، اللذين ارتبط مصيرهما، على الاقل، منذ وبموجب وعد بلفور.
اما طاهر المصري، فقد اختار مصلحة الشعب عندما كان رئيسا للوزراء. واثبت ان البقاء مدة اطول كرئيس للوزراء بأي ثمن لا يستحق ان يكون هدف رجل الدولة المحترم. كان بامكان طاهر المصري ان يشتري ولاءات معظم النواب حينئذ، وهو سلوك سلكه اكثر من جاؤوا بعده، ولكنه لم يفعل. لم يكتف طاهر المصري بمعانقة الشعب الاردني وهو يصعد عن كرسي رئاسة الوزراء، بل إنه اغتنم موقعه عندما كان رئيسا لمجلس الاعيان ليضطلع المجلس "بوطنية عالية" بالدورين التشريعي والرقابي، لأن معظم أعضاء مجلس النواب قد جير الدورين لمصالحه الشخصية.
لم يتقاعد المناضل طاهر المصري منذ أن تقاعد رسميا. ولم يتخذ موقع المراقب، أو الناقد السلبي المتشفي، بل اختار موقع الخفير اليقظ. وظل صوته الهاديء المطمئن العميق، يدوي في كل مناسبة يخرج فيها باص الحكومة المتخلخل المتهالك عن الطريق. وما اكثر ما خرج. اختار ان يحلل وان يحاور ويحاضر ثم ينصح بكل ايجابية وشفافية، وهو يعرف ان ذلك الدور سيكلفه ثمنا يتجنب دفعه كل من عمل في الحكومة، ومن يطمح للعمل فيها. بينما كان غيره يساوم من خلال صالوناتهم السياسية الانتهازية.
مليون تحية لروح وصفي التل التي لا تزال ترفرف في سماء الاردن. ومليون تحية لطاهر المصري الذي لم تفتأ عيناه تراقبان وتحرسان وتحرجان.
د. عادل يعقوب الشمايله