القلعة نيوز: عبد الرحمن محمد ابو صعيليك
في مستهل العام الهجري الجديد يكثر الناس من التحدث عن هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وسائل الإعلام، ولا يعدو حديثهم في الغالب أن يكون قصصاً تاريخياً يملؤون به الفراغ في أيام معدودات، ثم يُترك وينسى، دون أن يكون له أثر في النفوس، أو قدوةٌ في الأخلاق، بل لا يعدو أن يكون ذلك عند فئات عادةً سنويةً لا اكثر، ان المسلم يجب أن يقف عند الهجرة وقوف المعتبرين والمتعظين، بل لاينبغي ان تمر علينا ذكرى الهجرة كقصّة سردية أو رواية مشوّقة ، بل يجب أن نستخلص منها العبر والعِظات وأن نطبِّقها في مراسم حياتنا اليومية
ﺇﻥ ﺍﻟﺼﺪﺍﻡ ﺍﻟﺪﺍﻣﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﺎﺿﻪ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ ﻭﻋﺼﺒﺔ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ مع كفار قريش في الهجرة النبوية الشريفة ﻫﻮ ﺍﻟﺴُﻨﺔ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ ﻳﺒﻌﺜﻮﻥ، ﺇﻧﻪ ﺻﺪﺍﻡ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﻣﻊ ﺍﻟﻬﻮﻯ، ومعركة الحق والباطل ، وفي ﺍﻟﻬﺠﺮﺓ ﺗﺠﺴﻴﺪ ﻗﻮﻱ ﻟﻬﺠﺮ ﺍﺗﺒﺎﻉ ﺍﻟﻬﻮﻯ، ﻻﺗﺒﺎﻉ ﺍﻟﺤﻖ، ﻓﺘﻠﻚ ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﻔﺎﺭﻗﺔ ﻫﻲ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻤﻀﺎﻣﻴﻦ ﺍﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﻬﺠﺮﺓ، ﻓﺘﺮﻙ ﺍﻟﺪﻳﺎﺭ ﻭﺍلأﻫﻞ ﻭﺍﻟﻮﻃﻦ ﻭﺍﻟﻌﺸﻴﺮﺓ ﻭﻣﺎ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻪ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻣﻦ ﺃﻫﻮﺍﺀ ﺗﻌﻴﻖ ﻣﺴﻴﺮ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﻫﻮ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻤﻔﺎﺻﻞ ﺍﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﺇﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻌﻨﻲ ﺍﻟﺘﺨﻠﻲ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺎﺕ ﻭﻻ ﺗﻌﻨﻲ ﺍلاﻋﺘﺰﺍﻝ ﺑﻞ ﺗﻌﻨﻲ ﺑﻜﻞ ﺩﻗﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺗﺮﻳﺪ ﺍﻟﻬﺠﺮﺓ ﻟﺘﺮﻯ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺒﻴﺌﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻟﻠﻨﻈﺮ ﻟﺘﻌﺪ ﺍﻟﻌﺪﺓ ﻹﺻﻼﺡ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﻭﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﻫﻞ ﻣﻦ اﻧﺤﺮﺍﻓﺎﺕ
فمن ابرز دروس هذه الهجرة ان الدين اغلى من الوطن والاهل والعشيرة وهذه مناسبة لتذكير الوطنيين والقوميين ان التقوى هي اساس التمايز بين الناس وانها أساس الإخوة والمحبة؛ والذي تمثل جليا في حادثة الهجرة من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فقد آخى الرسول-صلى الله عليه وسلم -بين المهاجرين والأنصار، وجعل منهم إخوة متحابين تعاونوا وتحابوا بروح الله فأصبحوا متعاونين علي البر والتقوي، وكان الأنصار عند حسن ظن النبي بهم، فما احوج امتنا اليوم وهي تكتوي بلهيب الصراعات والفرقة ان تعلم ابنائها ان كل مسلم في كل مكان قضيته هي قضيتك مهما اختلف عرقه ووطنه ولونه وان تزرع في نفوس ابنائها وحدة الدين ووحدة الامة، وان دماء المسلمين ليست رخيصة
تعلمنا الهجرة أن الوطن ليس هو المكان الذى يولد فيه الإنسان بل هو المكان الذى يعيش فيه الإنسان بحرية وكرامة وعدل وسلام وإنسانية، تعلمنا أن الإيمان بالحق والمطالبة بالعدل ومقاومة الطغيان مسؤوليات عظيمة ومهام صعبة قد تكلف الإنسان كثيراً إن لم يكن مستعداً لتحمل المشاق والصعاب والتضحية والفداء، تعلمنا أن الجهاد المتواصل والكفاح المستمر مع الصبر والثبات واليقين والثقة بالله عز وجل هي طرق تحقيق النتائج المطلوبة والوصول إلى الحق
تعلمنا أن بعض ما نقوم به على غير رغبتنا أو مضطرين أو مجبرين قد يكون هو الأفضل والأمثل الذى يختاره لنا الله عز وجل وقد يكون بداية لحياة أفضل وأجمل وأكثر خيراً ورخاءً وسعادة
تعلمنا الهجرة أن وجود " القائد " مهم جداً ولا بديل له فالناس لا تتغير من تلقاء أنفسها أبداً والشعوب فى حاجة دائماً إلى من يقودها إلى الحق والخير والسلام والتقدم والرخاء وخير قائد وقدوة هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم
تعلمنا الهجرة أساس الصلة بالله؛ فمعلوم ان أول عمل قام به الرسول في قباء كان بناء المسجد، وأول عمل قام به الرسول في المدينة كان بناء المسجد، وهذا الأمر لم يكن على سبيل المصادفة، ولم يكن مجرد إشارة عابرة، هذا منهج أصيل، فلا قيام لأمة إسلامية بغير المسجد، أو قل لا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل دور المسجد؛ لأن المساجد الآن كثيرة؛ لكنّ الكثير منها غير مفعّل، ولا يقوم بدوره المنوط به.
يخطئ من يظن أن دور المسجد يقتصر على أداء الصلوات الخمس فحسب، بل إنه في بعض الدول الإسلاميّة يتم غلق المسجد بعد أداء الصلاة مباشرة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط. وفي الحقيقة دورُ المسجد في الأمة الإسلاميّة أعمق من ذلك بكثير، فلا يمكن اصلاح المجتمع الا بتفعيل دور اكبر مؤسسة واعظمها على وجه الارض وهي المساجد
تعلمنا الهجرة الاستقلالية الاقتصادية للمجتمع الإسلامي، فحينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في رحلة الهجرة وجد اليهود يحتكرون اسواق المدينة ويسيطرون على البضائع، فما كان منه إلا أن امر بانشاء سوق خاص للمسلمين في المدينة واسماه (سوق المناخة ) وهو قائم الى يومنا هذا، ومن هنا نجد اهتماهه صلى الله عليه وسلم بتحقيق الاستقلالية ونبذ التبعية من خلال انشاء ثاني مؤسسة بعد المسجد وهي "السوق" فما احوج الامة الاسلامية اليوم الى تحقيق اقتصاد خاص بهم ونبذ التبعية الاقتصادية من خلال ثقافة "المقاطعة" ، ومقاطعة كل البضائع التي تدعم اليهود وتغذي اقتصادهم
ولا تزال الهجرة ايضا تعلمنا أن نتخير الرفيق قبل الطريق، وأن المرافقة لا بد لها من الموافقة حتى لا يكون الطريق موحشـا "اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا " .
تعلمنا الهجرة النبوية الشريفة أن العاطفة وحدها لا تكفي لتقيم في مكان ما أو مع أشخاص ما لا يوافقونك ولا يتركونك لتعيش وفق أهدافك وطريقة سيرك التي اخترتها في الحياة
قال الرافعي رحمه الله: "وكانت خطوَاتُه ﷺ في هجرته تخطُّ في الأرض، ومعانيها تخطُّ في التَّاريخ " فلقد كانت ﺍﻟﻬﺠﺮﺓ ﻧﻤﻮﺫﺝ ﻗﻮيا ﻟﻠﺘﺪﺑﺮ ﻓﻲ ﻣﺴﻴﺮﺓ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻓﻬﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﻭﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺍﻷﺳﺎﻟﻴﺐ ﻭﺍﻟﻄﺮﻕ، ﻭﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻴﺌﺔ، ﻭﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺅﻯ ﺍﻟﻔﻘﻬﻴﺔ، ﻭﻣﺎ ﺃﺣﻮﺝ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ ﻟﺘﺪﺑﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﺘﺠذرة ﻓﻲ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﻬﺠﺮﺓ ﻭﻣﻀﻤﻮﻧﻬﺎ.
ولنعلم اﻥ ﺍﻟﺠﻤﻮﺩ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻭﺍﻟﻬﺠﺮﺓ ﻫﻲ ﺗﺠﺴﻴﺪ ﺧﺎﻟﺪ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻮ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ ﻭﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ، ﻭﺍﻟﺒﺤﺚ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺼﻮﻳﺐ ﻭﺍﻟﺘﺼﺤﻴﺢ ﻓﻲ ﻣﺴﻴﺮﺓ ﺍﻷﻣﺔ ﻭﻣﺸﻜﻼﺗﻬﺎ ﻭﻗﻀﺎﻳﺎﻫﺎ
تعلمنا الهجرة التغيير والتجديد والتطوير من انفسنا الى الافضل، وان نهاجر بافكارنا من مرحلة قراءة الطموحات الى مرحلة التطبيق العملي للأهداف على ارض الواقع تحت مبدأ (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
تعلمنا الهجرة النبوية أن التاريخ الهجري هو معلم حضارتنا ودليل عزنا وفخرنا ومجدنا ،وقد وثقت به كل احداث الدولة الإسلامية وظل العمل به حتى سقوط الخلافة الإسلامية ومن ثم تم احتلال البلاد الإسلامية واجبر المسلمون على ترك العمل بتاريخهم الهجري لذلك لابد أن نحيي هذا التاريخ والعمل به في نفوس أبنائنا واجيالنا
نسأل الله تعالى ان يجعله عام خير وعزة ونصر للمسلمين ولاهلنا المستضعفين في غزة خاصة يا رب العالمين
كل عام وانتم بالف بخير
غرة محرم ١٤٤٦ه