القلعة نيوز - كتب - شكري الحسن *
اعتاد البصريون، الذين لطالما رددوا مقولة أن النفط "نقمة" عليهم، على ملء رئاتهم بسُحُب الدخان المخيّمة فوق أجواء مدينتهم التي خُلقت لتعاني كما يبدو.
أَشعل علي العامل في أحد حقول النفط، لفافةً من قماشٍ منقوعٍ بمادةٍ سريعة الاشتعال… ثمّ قذفها عالياً صوب فوهة برجٍ ينفثا غازاً، وما أن اقتربت كرة النار من الفوهة حتى تفجّرت ناراً مستعرةً باعثةً سُحُباً من الدخان الكثيف الأسود التي ستظل تسبح في السماء إلى ما شاء الله.
إنها الطريقة التقليدية لإحراق الغاز المصاحب للنفط في واحدةٍ من مئات المشاعل الملتهبة في حقول البصرة الغنية بالنفط، التي تحيل عتمة الليل إلى شفقٍ "أورنجي” متوهجّ. وفي مدينة مثل البصرة، التي تطفو فوق أكبر مستودع للنفط في العالم، يُسيل هذا الكم الهائل من البترول لعاب الجميع.
يشيرُ خبراء الصناعة النفطية إلى أن البصرة وحدها تضم 15 حقلاً نفطياً وتنتج قرابة المليونين و700 ألف برميل يومياً، وهو ما يعادل 78 في المئة من إجمالي الإنتاج اليومي للنفط العراقي. ولكي يصبح هذا النفط الخام متاحاً للتصدير لا بد من حرق الغاز المصاحب له؛ وهنا مكمن الكارثة!
سُجلت شكاوى متكررة عن حدوث اختناقات تنفسية وأمراض سرطانية في صفوف العاملين في محطة غاز القرينات في الرميلة الجنوبية، إذ تشير تقارير رسمية إلى أن معدلات تركيز غاز كبريتيد الهيدروجين السام، تصل إلى 200 جزء بالمليون؛ وهو تركيزٌ كفيلٌ بإبادة كل من يتواجد هناك.
مؤسف أن العراق لم يطور قدراته في استثمار الغاز المصاحب للنفط بالتزامن مع التقدم الذي حصل في قطاع الإنتاج النفطي. وغدت ملايين الأطنان من الغازات المنبعثة يومياً من حقول النفط تضيعُ هباءً منثوراً في أجواء البلاد بعدما وقفت إرادات "مجهولة” عائقاً بوجه تطوير قطاع صناعة الغاز. كل ما لدينا اليوم دخانٌ كثيفٌ يشكّل خليطاً من الهيدروكربونات النفطية وثاني أوكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين والميثان والإيثان والبروبان والبوتان والهكسان… وكل أنواع السموم المبيدةِ للبشر قبل الحشرات. تصاعدت وتيرة هذه السُحب الدخانية بشكل لافت ما بعد عام 2003، إثر استعادة العراق إمكان تصدير نفطه إلى العالم الخارجي. إذ كانت الحكومة متعطشةً لتصدير أكبر كمية ممكنة من دون مراعاةٍ لصحة أبناء شعبها، لا سيما أولئك الذين قُدرَ لهم العيش بجوار منشآت النفط المُميتة هذه.
في 14 آب/ أغسطس 2009 أقرّت وزارة النفط العراقية، للمرة الأولى، بأنها تهدر نحو 700 مليون متر مكعب من الغاز يومياً من حقول نفط البصرة. وبحسابات المال، يتضح أن مقدار الخسارة يعادل 4 ملايين دولار في اليوم. وحتى بعد توقيع العراق جولات التراخيص مع شركات النفط الأجنبية، فإن المعضلة لم تنتهِ؛ إذ تنأى إلى مسامعي أن الفقرة المتعلقة بصون البيئة من التلوث النفطي قد تم إهمالها (أو حذفها) من بنود الاتفاقيات بطلبٍ من الجانب العراقي لتخفيض القيمة الإجمالية لإنتاج برميل النفط. وحين سألتُ ذات مرةٍ وزير نفط عراقياً سابقاً عن مدى صحة ذلك، تملّص من الإجابة الصريحة، لكنه أقرّ بأن كل ما يتصل بإجراءات حماية البيئة من التلوث النفطي "معلّقةٌ… ولم يلتزم بتنفيذها أحدٌ”.
اعتاد البصريون، الذين لطالما رددوا مقولة أن النفط "نقمة” عليهم، على ملء رئاتهم بسُحُب الدخان المخيّمة فوق أجواء مدينتهم التي خُلقت لتعاني كما يبدو. وتبرز هذه المعاناة في جهات عدة من البصرة. فمثلاً سُجلت شكاوى متكررة عن حدوث اختناقات تنفسية وأمراض سرطانية في صفوف العاملين في محطة غاز القرينات في الرميلة الجنوبية، إذ تشير تقارير رسمية إلى أن معدلات تركيز غاز كبريتيد الهيدروجين السام، تصل إلى 200 جزء بالمليون؛ وهو تركيزٌ كفيلٌ بإبادة كل من يتواجد هناك. وفي بلدة الزبير التي تضمّ نحو 67 في المئة من حقول نفط البصرة، بات الدخان المتصاعد في الأفق مشهداً مألوفاً لجميع القاطنين فيها. فمصفى تكرير النفط، مثلاً، الواقع في مسار الرياح الشمالية الغربية السائدة الهابة على البلدة، ينفثُ شهرياً نحو 4600 متر مكعب من الغازات الحمضيّة المحروقة في الشعلات؛ ولذا يجب ألا نستغرب من بلوغ عدد المصابين بالأمراض التنفسية الذين يراجعون المستشفيات حوالى 70 ألفاً سنوياً.
وتتجلى التراجيديا بأوضح معانيها، عند زيارة قرية نهران عمر الواقعة على ضفاف شط العرب في شمال البصرة، التي يمكن اعتبارها أقرب تجمع سكاني محاذٍ لمنشأة نفطية في العالم بأسره. إذ لا يفصل بين منازل القرية ومشاعل الغاز الملتهبة سوى جدار أمني رقيق!
شُيّدت محطة عزل الغاز في نهران عمر خلال حقبة السبعينات، ولغاية عام 2003 لم يكن السكان المجاورين يشكون من أي تأثيرات للتلوث، ذلك لأن المحطة لم تكن تعمل بكامل طاقتها بسبب تداعيات الحرب مع إيران في الثمانينات والحصار الاقتصادي في التسعينات. حتى ظهرت بوادر الأذى بعد عام 2003 تحديداً، حين استأنف العراق قدرته على التصدير والعمل على رفع الإنتاج. والواقع أن استغلال هذه المحطة يجري بأقصى ما يمكن لأجل إنتاج نحو 50 ألف برميل يومياً، لا سيما أن النفط المستخرج منها يعدّ خفيفاً جداً ومن أفضل الأصناف المرغوبة عالمياً، لكن كمية الغاز المصاحب هنا تكون كبيرةً جداً وتحتوي على مركّباتٍ غايةٍ في السمّية.
"نوفيت خنقاً من رائحة الغاز الكريهة واستنشاق رذاذ الدُّخان، لقد توفيت والدتي وأبن شقيقي الشاب بالسرطان… وأنا أنتظر الدور أيضاً”.
شكا سكان القرية، وجلّهم من الفلاحين، مراراً من وقع التلوث النفطي عليهم، وطالبوا بالتعويض المادي والمعنوي إلا أنهم لم يلقوا استجابة جادة. "نحن في حَيرة من أمرنا، فمن جهة لا نستطيع التخلي عن أرض أبائنا لعدم توافر البديل المناسب والتعويض المجزي، ومن جهة أخرى ليس بمقدورنا البقاء لمدةٍ أطول فالدخان والسرطان ينهشان في أجسادنا”، يقول جواد طاهر (57 سنة). لقد فقد جواد فردين من عائلته بسبب مرض السرطان، فضلاً عن معاناته من أعراض مماثلة. فوق هذه القرية الزراعية يهبط الرذاذ الدخاني كالمطر، ويتلف كل شيء في طريقه: المزروعات الخضريّة، الحيوانات الداجنة، الملابس، أبدان السيارات، والأهم البشر أنفسهم. يتحدث ساجت حسن (44 سنة)، أحد أبناء القرية وهو موظفٌ في المنشأة النفطية ذاتها: "نموت خنقاً من رائحة الغاز الكريهة واستنشاق رذاذ الدُّخان، لقد توفيت والدتي وأبن شقيقي الشاب بالسرطان… وأنا أنتظر الدور أيضاً”. على رغم هذه الخسارة الفادحة ويقين ساجت من الموت الوشيك إلا أنه لا يملك خياراً بترك العمل الذي أمسى اليوم فرصة نادرة في العراق. قبيل المغادرة، سلمني جواد قائمةً أعدها بنفسه تضمُّ 28 أسماءً لنساءٍ ورجالٍ من قريتهِ قال إن السّرطان قتلهم خلال العشر سنوات الأخيرة فقط من جراء التلوث الحاصل.
قرابة 2000 عائلة تقطن في هذه القرية المنكوبة، التي يروى عنها أنها كانت ذات يومٍ تغفو بأمان على ضفاف شط العرب وسط بساتين غاصة بعناقيد العنب والتين والمشمش وعذوق التمر الغضّة المتدلية، هي الآن مهددةٌ بالتصحر والفناء البطيء بسبب ضريبة الغاز المحروق باهظة الثمن… ودونما اكتراث من أحدٍ. الحلول تجمّدت ههنا: لا إقفال للمحطة ولا تقنين للغاز المحروق ولا تعويض للمتضررين ولا رعاية صحية حتى الان
* أكاديمي وخبير بيئة عراقي - * النشره الاسبوعيه ل " درج *