
نحن لا ندرس التاريخ لتغيير ما كان، ولكن لتغيير ما سيكون.
القلعة نيوز -
الدول والتنظيمات والأحزاب والسياسة والجماعات وحسابات الأشخاص والقبائل، وحسابات القرايا تختلف عن حسابات السرايا، هي هكذا هو قرار سياسي واحد خاطىء وتصطف في الجانب المظلم للإمم لفترات طويلة وربما لعقود، وتحتاج إلى معجزات بعدها حتى تخرج من الوضع الذي أنت فيه، وما حال أوكرانيا إلا أوضح تعبير عن ذلك، كان التحذير من إقتراب الناتو من حدود روسيا هي الخطوط الحمراء التي وضعتها موسكو، مع ان روسيا كانت تسعى في فترة للإنضمام إلى أوروبا، ولكن كان هناك حسابات سياسية مختلفة تدفع ثمنها اليوم اوروبا وأوكرانيا التي إصطفت في الجانب الخاطىء، وكانت حسابات الجمعيات العربية في يوم ما تسعى لأمة عربية واحدة، وإصطفت في المكان الخاطىء مع الإنجليز، المستعمر الأخطر والأكثر سياسة وخبثا من كل المستعمرين الذين مروا على البشرية، لم تستطع القيادة العربية أن تدرك حجم الخداع والمكر الذي تتصف به السياسة الإنجليزية، حتى بعد التحذير الذي قامت به الثورة البلشفية والتي نشرت وثيقة سايكس بيكو، والتي كانت تنص صراحة على توزيع أراضي السلطنة العثمانية في اوروبا على دول من ضمنها روسيا القيصرية، ولكن التحذير لم يصل للساسة العرب، والذين كانوا يظنون أن بريطانيا وعدت وهي ستفي، ودفع الساسة والأمة الثمن.
وعلى الجانب الأخر كان الضباط الأتراك قد قاموا فعلا بإنقلاب على حكم السلطان عبد الحميد، وأصبح هو والثلة السياسية الحاكمة خارج دائرة السيطرة وإتخاذ القرار في الإستانة، وقررت هذه الثلة خوض حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، كما يقول الباحث وضاح خنفر والإصطفاف مع ألمانيا في حربها مع الحلفاء، نتيجة الظن الذي سيطر على عقولهم بأن ألمانيا قوة لا تقهر، ومن أجل إعادة الإلق والسمعة إلى بقايا القوات العثمانية التي كانت تتعرض لخسائر فادحة هنا وهناك، وكانت تخسر الأراضي التي تبيض ذهبا وفضة في البلقان وأوروبا والكلام لخنفر، وهنا بدأ الضغط الكبير على المنطقة العربية من اجل محاولة تعويض الدخل المفقود، وبدأت المكوس والضرائب تثقل كاهل المواطن العربي في هذا الجزء من العالم، نعم هذا الجزء لم يكن في دائرة صناعة الحدث، منذ تلك اللحظة التي فقد فيها القلب العربي السيطرة لصالح الأتراك، والقلب هنا هو بلاد الشام ومصر والعراق، وهذا ما يؤكده الباحث محمد المختار الشنقيطي في سياق مختلف، بأن قلب العالم الإسلامي هو بلاد الشام، وهي التي كانت المحرك الرئيسي لكل الأحداث الجسام التي مرت على الأمة.
في لحظة خسر فيها القلب قوته وسيطرته لصالح الأطراف، لكن لم تكن الأمة في يوم سوى جسد واحد والكلام لخنفر، ورغم التشتت والضعف الذي أصاب الأنظمة الحاكمة في الشام ومصر سواء ايام الفاطيمين او أيام ممالك الشام المتنازعة، لكن العقل الجمعي للأمة ظل موحدا تحت راية الأمة وقضاياها الإساسية، ولذلك كان من الطبيعي أن يتحرك أي فرد من أفراد الأمة من أي مكان للإنضمام لأي قوة، تسعى لتحرير اراض إسلامية وقعت تحت السيطرة الصليبية او التترية أو المغولية، وكانت الجيوش التي يقودها صلاح الدين تضم قوات من كل مناطق القلب التي ذكرناها تقريبا، وسعى لتحرير وتوحيد هذه المناطق تحت سلطة واحدة من أجل إستعادة الحالة الصحية السليمة للأمة، والقدرة على مواجهة أعدائها والتحديات التي تحيط بها بتوحيد موقفها وصفها الداخلي.
في المقابل اوروبا كانت في حالة تدافع مستمر، فهذه الدولة تسعى للأراضي الدولة المجاورة، وتلك تدافع عن نفسها وتحصن نفسها وقواتها ومدنها، وتبحث عن وسائل دفاع جديدة او هجوم جديدة، فالمجر والنمسا وبريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وإسبانيا والبرتغال وهولندا كلها دول كانت تسعى للتوسع والإستعمار، او الدفاع عن نفسها في أوقات أخرى، وهي في حراك مستمر بحسب ميزان القوة القائم في اوروبا، هذا دفع السلاح والتسلح والعلوم العسكرية في القارة بشكل كبير للأمام، وإن كانت قدم السبق للقوات العثمانية في فترات سابقة، ولكن الكفة كانت تميل أحيانا، وفي النهاية تقدمت الدول الاوربية كثيرا وكانت السلطنة العثمانية تخسر اراض أكثر في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، خسرت معظم الأراضي في القارة الأوروبية، وكان ميزان القوة والمال والعلم يميل لصالح الأوروبين، وكان كل تطور في الإسحلة المستخدمة يشكل موازين جديدة، وقوى جديدة تظهر وتسيطر، وكل ما قامت به ألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية كان دفع السلاح المستخدم مسافات للأمام من حيث القدرة والفاعلية وحجم الضرر والقتلى، ما ساهم في سقوط هذه الإعداد التي تجاوزت الخمسة وثمانين مليون إنسان في الحربين في أقل تقدير بين مدني وعسكري حسب مواقع مختلفة، وكيف أن الأعداد كانت حولي خمسة عشر مليون في الحرب الأولى، ووصلت إلى حوالي سبعين مليون في الحرب الثانية.
فاعلية الأسلحة وقدرتها التدميرية والتدريب والكفاءة نتيجة الممارسة المستمرة للحرب إرتفع أضعافا، وكل هذا إرتبط بصناعات وسياسين مارسوا المفاوضات والنقاشات والمراهنات، وأتخاذ القرار ورؤية النتائج، في ممارسة مستمرة لعقود، وكان لل يه ود مشاركة فاعلة في كل هذه الأحداث فهم جنود من جهة، وممولين وسياسين من جهة أخرى، وعلماء يطورون ويصنعون ويساهمون في الكثير من الإنجازات التي كان لها أثر كبير على مجرى الحرب، وما قصة الإستون إلا واحدة من هذه القصص، في المقابل كان العالم العربي في حالة من الخدر السياسي والعسكري والعلمي والثقافي، لقد كنّا فعليا على الهامش، ومن يستقرأ تلك الفترة الزمنية، يشعر بأن الزمان لم يتجمد فقط ولكن تراجع قرونا إلى الخلف، من حيث المكانة العلمية والدينية والأثر السياسي والثقافي والأدبي والفني، أكاد اقول في كل شيء تقريبا، فترى حواضر المنطقة من المدن والقرى تحتوى على أعداد قليلة ممن يقرؤون ويكتبون، وعدد المكاتب والكتب ومن يهتم بها تعدّ على أصابع اليد، وهكذا دخلنا في فترة من السبات الحضاري.
هل كان السبب هو إنتقال مقر السلطة من قلب العالم العربي إلى إلإستانة، نعم كان له دور كبير، ولم تحرص السلطنة على تعزيز دور العلم والمدارس والجامعات مثل الأزهر والزيتونة وان أبقت عليهم، ولكن بدون دعم حقيقي للدور العلمي والبحث والتطوير، وأصاب هذه المفاصل الجمود، نعم هي أسست مدارس في الشام والحجاز والعراق ومصر، ولكن المدارس التركية الموازية كانت لها الأولوية من حيث الإهتمام والتطوير والدعم، ودخل العلماء والحركة العلمية التي كانت في الشام وبغداد والإندلس في جمود مقارنة مع ما كان يحدث في إسطنبول، حيث كانت هي مركز الجذب العلمي والحضاري والديني والثقافي للأمة في هذه الفترة.
بعد أن ظهرت نتائج إصطفاف الضباط الأتراك مع ألمانيا وبدأت الخسائر تلحق بالعثمانين، حاول الضباط الأتراك التواصل مع الشريف حسين، بأن هناك خديعة تتعرض لها الأمة، نعم لقد بدأت أوروبا تحقق أهدافها في إختراق الأمة من خلال الهزائم المستمرة التي تلحق بالعثمانين والألمان من جهة، ومن خلال التحالف العربي الذي كان له دور كبير في إخراج العثمانيين من الأراضي العربية في الجهة الأخرى، وحقيقة هنا لا أريد أن أضع نفسي مكان الساسة العرب في هذه الفترة الحساسة من تاريخ الأمة، فمن جهة كان هناك ظلم وتسلط من الحكم العثماني على هذه الأمة لقرون، ومن يشك في ذلك يستطيع العودة إلى المصادر التاريخية التي تؤكد وقوع الكثير الكثير من التصرفات والتهميش والظلم من قبل الحكام وقائم مقام في هذه الفترة، ومن جهة هناك ضوء في نهاية النفق بأمة عربية إسلامية واحدة، وهناك إنعدام للخبرة السياسية والعسكرية للقادة العرب في التعامل مع هذا النوع من الساسة والإتفاقيات والمفاوضات، وعدم دراية بحجم الخيانة التي تنتظرهم من البريطانين والفرنسيين وغيرهم، ووقع العالم العربي كله تحت وطأة الإستعمار الغربي الذي لا يعرف الرحمة وقسم الأمة وثرواتها وتحكم بها وبمصيرها.
ولوكنا،، وكلنا نستعيذ بالله من لو، لو كان لدى الساسة العرب الدهاء والخبرة والحنكة السياسية، لتوقفوا عن دعم القوات البريطانية في اللحظة التي ظهرت فيها الوثيقة، ووضعوها تحت خيار منح العرب ما يريدون، او مواجهة العرب والعثمانيين معا كقوة واحدة، وعندها لكانت الكفة كلها قد تغير مسارها.
ولذلك نحن لا ندرس التاريخ لتغيير ما كان، ولكن لتغيير ما سيكون.
إبراهيم أبو حويله ...